لا يزال الارتياب يسيطر على الكثير من المعنيّين واللبنانيين، حيال طريقة تعامل الحكومة والقوى السياسية مع صندوق النقد الدولي. فالموقّت في لبنان عادةً، أبدي. وعلى هذه القاعدة، قد تتطوّر الاستشارة التقنية التي من المفترض أن يقدّمها خبراء من صندوق النقد الدولي، إلى وصاية كاملة لهذه المؤسسة الدولية «الاستعمارية» على النظام الاقتصادي والمالي في البلاد. ولا يُلام المرتابون طالما أن أحداً من القوى السياسية الرئيسية، لم يقطع الشّك باليقين على العلن، برفض الوصفات الجاهزة التي يقدّمها الصندوق للدول المتعثّرة، والتي عادةً ما تنتهي بإفقار الشعب وضمان استدامة الدين العام على حساب الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع.فعدا عن حزب الكتائب الذي أيّد بشكل واضح تسليم البلاد لصندوق النقد، وموقف الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتقد عدم رفض الحكومة في بيانها الوزاري بشكل قاطع وصفات الصندوق، لا تزال القوى السياسية الرئيسية بلا إعلان واضح لمواقفها، مع أن بعضها قد حسم خياراته.
وعلى ما علمت «الأخبار»، فإن حزب الله والرئيس نبيه برّي اتخذا قراراً واضحاً برفض الخضوع للوصفات الجاهزة من قبل صندوق النقد، في مقابل عدم ممانعة المشورة التقنية التي يمكن أن يقدّمها ممثلو الصندوق للحكومة.
وهذا الرفض ليس موقفاً سياسياً فحسب، برفض خضوع البلد لشروط صندوق النقد، إنّما أيضاً لأن حلول الصندوق الجاهزة تبدأ دائماً من فوق إلى تحت، أي من مالية الدولة والموازنة، ثم تنتقل إلى المصارف، ما يعني زيادة الضرائب على المواطنين وتخفيض الرواتب في القطاع العام وزيادة تعرفة الكهرباء والضريبة على القيمة المضافة وعلى المحروقات، والمسّ بالنظام التقاعدي وشروط إفقارية أخرى قبل معالجة الأزمات الناجمة عن السياسات المصرفية. وهذه الشروط لن تحلّ المشكلة، بل ستجرّ البلاد إلى الرضوخ لتنازلات سياسية، لطالما صمد لبنان في رفضها. صحيح أن الرئيس ميشال عون والوزير جبران باسيل ليسا بعيدين عن موقف «الحزب والحركة»، لكنّ الحديث الذي يردّده بعض المحيطين بالرئيس والمقرّبين من باسيل، حول أن الحل الأخير قد لا يكون سوى صندوق النقد، يجعل موقفهما عرضة للشكّ، في ظلّ الصمت الرسمي. بينما يزداد الحديث عن توصّل رئيس الحكومة حسان دياب إلى شبه اقتناع واضح برفض الوصفات الجاهزة مسبقاً، والعمل مع «صندوق النقد» على القطعة.
لكن إلى جانب الاجتماعات التنسيقية المشتركة بين حزب الله وأمل، يجري الحديث عن تشكيل لجنتين مشتركتين تضمان ممثلين عن حزب الله والتيار الوطني الحر وحركة أمل، الأولى ماليّة لدراسة الأزمة وتقديم اقتراحات الحلول، ولجنة ثانية لدراسة ملف الكهرباء والخروج بموقفٍ موحّد من القوى الثلاث حيال هذا الملفّ المزمن.
وحتى الآن، يمكن القول إن مهمة مستشاري صندوق النقد لم تبدأ بعد. فالجلسات الأولية التي عقدها هؤلاء التزموا فيها عدم تقديم أي فكرة، وتكرار الحديث عن النهج العام لعمل الصندوق. فيما يلاحظ هؤلاء الانقسام في صفوف اللبنانيين حيال طروحاتهم. ويتوقّع أكثر من معني أن تأخذ الخطة التي تعمل عليها الحكومة واللجان المتفرعّة عنها أسبوعاً جديداً على الأقل، قبل أن تتّضح معالمها ليجري الطلب من مستشاري الصندوق العودة لإطلاعهم على الخطّة المفترضة، على أن يعلّق هؤلاء عليها ويقترحوا التعديلات.
وفيما تستمر السلبية الأميركية تجاه لبنان بشكل عام، برز أمس موقف وزير المال الفرنسي برونو لو مير من السعودية، على هامش اجتماع مسؤولي المالية في مجموعة العشرين، حيث أعلن استعداد «فرنسا لدعم لبنان مالياً، في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف. لقد كان الحال دائماً في الماضي وسيكون هذا هو الحال في المستقبل». لكنّ الأبرز في كلام لو مير، هو تحذيره من «خلط التعافي الاقتصادي في لبنان مع الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لمواجهة إيران في المنطقة». وأضاف: «نعرف أن ثمة روابط بين المسألتين، لكننا لا نريد خلط قضية التعافي الاقتصادي في لبنان، وهو اليوم في حالة طوارئ واضحة، ومسألة إيران». بدوره، كرر وزير المال السعودي محمد الجدعان الكلام المعتاد الذي يصدر عن الرياض، لكن مع جرعة إضافية من «الإيجابية»، إذ قال إن «المملكة على اتصال ببلدان أخرى لتنسيق أي دعم للبنان على أساس الإصلاحات الاقتصادية»، وأضاف إن «المملكة كانت ولا تزال تدعم لبنان والشعب اللبناني».
يطالب الفرنسيون الأميركيين بعدم المغامرة بانهيار لبنان لضرب حزب الله


الاهتمام الفرنسي بالأزمة اللبنانية مضاعف هذه الأيام، حتى بات السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشيه يراسل إدارته بصورة يومية، ويعدّ التقارير التفصيلية، مع متابعة دقيقة من باريس. وترك الموقف الفرنسي أصداء إيجابية في بيروت، وفهم على أنه كلام موجّه بالدرجة الأولى إلى الإدارة الأميركية. ويقول مطّلعون على أجواء الدبلوماسية الفرنسية إن كلام وزير المال هدفه لفت انتباه الأميركيين إلى خطورة التفكير بأن إفلاس لبنان لأجل القضاء على حزب الله، في إطار الحرب مع إيران، هو مغامرة خطيرة على أوروبا وفرنسا، ويجب العمل على تحييد المسارات، وفصل المعركة مع إيران عن إفلاس لبنان وانهياره الاقتصادي والأمني. كذلك يحرص الفرنسيون على مطالبة الأميركيين بعدم وضع خطوط حمر أمام الدعم العربي إلى لبنان، مع تأكيدهم أن اهتزاز الاستقرار اللبناني سيؤثّر على الخليج أيضاً، ولا بدّ من مساعدة لبنان ووضعه على سكة الإصلاحات. كما يخشى الفرنسيون أن تتحوّل تدخلات صندوق النقد الدولي إلى وسيلة للهيمنة الأميركية الكاملة على القرار المالي والاقتصادي، وإخراج فرنسا من واحدٍ من آخر معالم نفوذها المتآكل في الشرق وإفريقيا.