لا أحد يركن الى البيان الوزاري لحكومة الرئيس حسان دياب كي يعبّر عما تفكر فيه أو تعتزم القيام به. لا يعدو كونه، مع دياب كما مع أسلافه جميعاً قبل اتفاق الطائف وفي ظله، حبراً على ورق. لا يعني سوى مجلس النواب كي يمنح الحكومة ثقته. شرط هذه البيان الوزاري الذي هو برنامجها النظري. الواقع أن أياً من الحكومات أو رؤسائها المتعاقبين، مذّاك الى اليوم، لم يقدّم مرة الى مجلس النواب أو الى اللبنانيين ـ وهذا ما لا يلزمه الدستور ولا التقاليد والأعراف المتبعة ـ جردة بما طُبق أو لم يطبّق في البيان الوزاري. تبعاً لذلك يضمحل هذا ويتبخّر مضمونه ما إن تخرج الحكومة من البرلمان. من ذلك القول بأن الحكومات تستنسخه واحدة من أخرى.يتعمّد دياب أن لا يطل على اللبنانيين في الوقت الحاضر، قبل أن يكون أنجز أمراً مهماً ما في المعضلة النقدية. وهو على الأقل ما يسمعه منه زواره. تبرر صمته وفرة الاجتماعات التي يعقدها وتوزيع الملفات على لجان العمل. ثمة صمت يوازي صمته اكتسب أهميته منذ الأيام الأولى لممارسة حكومته صلاحياتها، مع أن البعض افترض كسر هذا الصمت عند صدور مراسيم التأليف، هو أن الرياض وواشنطن لم تقولا بعد كلمتيهما في الحكومة الجديدة، كونهما تشكلان مفتاح الانفتاح على العرب والغرب، وعلى التحدث معهما، والتعويل عليهما لدعم لبنان ومساعدته على أكثر من صعيد.
كلتا العاصمتين الكبريين لم تُدلِ بعد بدلوها، ما يضمر غموضاً في الموقف يتجاوز التريث. الذريعة المعلنة في حسبان حكومة دياب أنهما تنتظران ما ستفعله لمعالجة ضائقة الداخل ـ وهو أقل الأهمية بالنسبة اليهما ـ وما ستقدم عليه في خيارات سياستها الخارجية، وهو أكثر ما تعنيهما.
في الغالب، قبل التأليف، اعتادت هاتان العاصمتان بالذات - بإزاء حكومة تمثل لوناً واحداً كحكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 - توجيه التحذير علناً تارة من حكومة حزب الله، وطوراً من حكومة تخرج على الإجماع العربي أو على القرارات الدولية أو المحكمة الدولية أو حكومة غير متوازنة. إلا أنهما تؤكدان، بعد صدور المراسيم، إما الدعم المشروط للحكومة الجديدة تبعاً للمتطلبات تلك أو انتظار أفعالها. أبرز ما يترجم الموقف الإيجابي للرياض دعوة رئيس الحكومة الى زيارتها. ما يحصل اليوم لا يشبه أياً من ذلك كله، إذ تقصر الدولتان الكبريان موقفيهما على الصمت من حكومة دياب الذي يحتمل بدوره أكثر من تفسير: ما لم يصدر موقف سلبي علني، فتلك إيجابية حذرة ومتحفّظة على الأقل.
مع ذلك، فإن الأيام القليلة الفاصلة عن جلسة الثقة، قبل أقل من أسبوعين، أعطت إشارات واضحة الى دعم ما يتمتع به رئيس الحكومة، من غير أدلة حسية ومباشرة على هذا الدعم، أو الجهات التي تقف وراءه. لكن بضعة مؤشرات أبرَزَها سلوك دياب وردود فعل أفرقاء محليين آخرين، أوحت بأن الرجل يسند ظهره الى صخرة صلبة ما، من غير أن يكون مستعجلاً التقدّم بخطة إنقاذ كيفما كان تحت ضغوط الوقت والتدهور المتسارع والانهيار الوشيك. في حسبان رئيس الحكومة أن المشكلة سياسية مقدار ما المعضلة نقدية واقتصادية. ولأن رجال حكومته اختصاصيون، لا يسعهم الاكتفاء بحلول تقنية لا يسبقها غطاء سياسي يتطلبه في مجلس النواب، لكن أيضاً خارجه لدى قوى الائتلاف التي دعمت ترؤسه الحكومة. وهي نفسها في البرلمان وخارجه. لا يتصرّف دياب كأنه متروك في قلب أزمة متفلّتة بلا ضوابط ومتعذّرة الحلول ستسقطه لاحقاً، ولا يتصرف كذلك على أنه أداة بين أيدي كل الذين يقفون وراء حكومته.
واقع الأمر أن مؤشرات أولى قدمها الرجل في أدائه منذ تكليفه، أوحت بمراسه الصعب:
أولها، إصراره على مواصفاته هو للحكومة، كحكومة اختصاصيين، وصدور مراسيمها على نحو ما أراد، وإن سلّم برفع عدد وزرائها من 18 الى 20 وزيراً، بمثل تسليمه بأن الكتل الرئيسية في البرلمان شريك أساسي في التأليف. لذا كانت تنازلاته أقل بكثير مما قدمته له، وهي تتعامل مع شخصية غير شعبية، ليس زعيم طائفته، لا كتلة نيابية له، لا حزب عنده ولا هو سياسي مجرّب بالقدر الكافي، ولا هو محرّك في الشارع مقدار ما توحي به المواصفات الأكاديمية العابسة. مع ذلك لم يتساهل.
ثانيها، انكفاء حملات الاعتراض عليه في الشارع السنّي بعد اشتعاله لبضعة أيام، مع التسليم بأنه هو الذي سيؤلف الحكومة، وستكون حكومة أمر واقع لم يعد في وسع أي أحد الحؤول دونها. كان دياب آخر أسماء لائحة حملها ممثلا الثنائي الشيعي علي حسن خليل وحسين الخليل الى الرئيس سعد الحريري الذي شطب الأسماء الأولى وأبقى على الأخير، وظل يراهن على إخفاقه في التأليف. بعد بضع عراضات سنّية غاضبة في الشارع، رضخ الحريري فأحضر بعض نواب كتلته الى جلسة الثقة، بعدما كان شارك في الاستشارات النيابية الملزمة، واستقبل دياب في اليوم التالي كرئيس مكلف، وطالب لاحقاً بمنح حكومته الفرصة.
عدم إدلاء واشنطن والرياض بموقف سلبي من دياب إشارة إيجابية


يومذاك، منذ الليلة السابقة، بَاتَ برّي ونائب رئيس المجلس ايلي فرزلي في مبنى البرلمان في انتظار اليوم التالي. في الغداة تحدث برّي الى الحريري ظهراً وأصر عليه حضور نوابه الجلسة بغية إكمال النصاب القانوني. تدلّع الحريري بادئ الأمر من باريس، قبل أن تعلو نبرة غضب من رئيس البرلمان، فاستجاب. لم تحتج مكالمة مماثلة بوليد جنبلاط الى أي جهد كي يحضّ نواباً من كتلته على الحضور. لكن أطرف ما واجهه برّي في الجلسة عناد دياب أمامه، بعدما لانَت الكتل كلها. خفّض عدد طالبي الكلام من 42 الى 17 اختصاراً للجلسة والمسارعة الى التصويت. طلب منه اختصار كلمته هو الآخر لإنهاء الجلسة، فأصر على الإدلاء برده على النواب حتى الكلمة الأخيرة. كأبي الهول جلس في القاعة طوال مدة انعقاد الجلسة من غير أن يتزحزح، ولم تستفزّه الدعوة الى تبنيه موازنة أعدها سلفه، ولا تأليب آخرين على عدم تبنيها.
ثالثها، أكد دياب هذا التشبث عندما أعلن، إبان التأليف، أنه لن يعتذر. ثم عندما ربط في الساعات القليلة التي سبقت صدور مراسيم التأليف ليل 21 كانون الثاني. منذ السابعة، وقد أضحت المراسيم جاهزة، رفض الذهاب الى قصر بعبدا قبل التأكد ممن سيحل في نيابة رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع. خلافاً لتقليد متبع، وهو أن يحضر رئيس مجلس النواب الى قصر بعبدا بعد أن يتفق رئيسا الجمهورية والحكومة على المراسيم نهائياً، أحجم دياب عن الذهاب ـ بعدما سبقه برّي وانتظر ـ الى أن تبلّغ عبر الهاتف استجابة شروطه الأخيرة الناجمة عن التوزيع الجديد للمقعدين الدرزي والكاثوليكي المحدثين وباقي أسماء اللائحة، وتالياً إجراء تبديل اقترحه هو في حقائب أطاحت أسماء كانت مرشّحة للتوزير.
رابعها، من السذاجة الاعتقاد أن نائب رئيس الجامعة الأميركية للشؤون الخارجية، الذي أمضى أكثر من عقد متنقلاً بين أفريقيا وشرق آسيا والخليج العربي في ما مضى وصولاً الى عُمان - دولة القنوات السرية - يسعه أن يصل الى رئاسة الحكومة اللبنانية بلا دعم مخفيّ، لا يزال يثير الكثير من الغموض من حوله ومن حول عرّابيه، وخصوصاً أن الحواجز في طريقه تكسّرت تباعاً، ولم يعدُ موقف الحريري منه سوى مسألة ثانوية غير ذات تأثير.