قبل انفجار الشارع في 17 تشرين الأول بأيام، أعلن وزير الخارجية جبران باسيل نيّته زيارة سوريا، بعد جلسة طويلة مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. تعتقد أكثر من جهة، بأن هذا الإعلان كان أبرز أسباب الهجوم المعنوي على باسيل والانتقادات التي وُجّهت له من قبل الإعلام الغربي. النقاش في صحّة هذا الاعتقاد أو عدمها بحثٌ آخر. إلّا أن الأكيد، أن الجهات نفسها ترى أن باسيل ومن ورائه الرئيس ميشال عون تخلّفا، لثلاث سنوات على الأقل، عن اتخاذ خطوة من هذا النوع.ولهذا التأخير سببان ظاهران: الأوّل، هو التسوية مع الرئيس سعد الحريري، التي أوصلت عون إلى الرئاسة، ومعاندة الحريري للانفتاح على دمشق. والثاني، هو عدم إغضاب الأميركيين، الذين لم يتوقّفوا خلال نصف ولاية رئيس الجمهورية عن مراكمة الضغوط على سوريا وزجر الأوروبيين والعرب عن أي انفتاح تجاهها، مع استثناءات، واستخدامهم لبنان كواحدةٍ من أبرز ساحات الضغط.
اليوم، مع الانهيار المتسارع للنظام المالي والنموذج الغربي الذي عُزِل لبنان على أساسه عن أي تكامل اقتصادي مع سوريا منذ «فصل المصالح المشتركة» عام 1950، ليس ترفاً الحديث عن تفعيل العلاقات بين البلدين وتطوير الروابط الاقتصادية، وصولاً إلى خطوط النقل والمواصلات والتعاون في مجالات الطاقة، في سياق جغرافي طبيعي. الحاجة والمصير هما الدافع للبدء بتصحيح خطيئة قديمة، كلّفت لبنان واقتصاده وأمنه الغذائي ضريبة باهظة.
وهذا المنطق لم يعد محصوراً بالنخب السياسية والقوى الحليفة لسوريا، بل ردّده كثيرٌ من اللبنانيين الذين اختنق صدرهم من النموذج، كما أنه بات جزءاً من نظرة روسيّة ــــ صينية إلى العلاقة بين لبنان وسوريا والعراق، في سياق المخاض السياسي ــــ الاقتصادي الكبير التي تمرّ به المنطقة.
تأثير هذه التحولات ليس عادياً على الرئيس عون تحديداً، الذي تحرّر من «لاءات» الحريري مع رئيس الحكومة الجديد حسان دياب، وبات يحتاج أكثر من أي وقتٍ مضى إلى القيام بخطوات خارج تلك التي كبّلتها لعبة التوازنات الداخلية، لإنقاذ لبنان وعهده، عبر الانفتاح الاقتصادي الضروري على الشرق، ومفتاحه سوريا. فعون الذي تمنّع منذ انتخابه عن زيارة دمشق، بات مقتنعاً اليوم بضرورة الزيارة، ومهتماً بترتيب نتائجها قبل حصولها.
أيام قليلة، وتأخذ حكومة دياب الثقة في المجلس النيابي. عارفو الرئيس الجديد، الذي حرص على أن لا يظهر رئيساً لحكومة مواجهة بل حكومة توازن، يتوقّعون منه القيام بأي خطوة من شأنها أن تعالج التدهور، ومن بينها تفعيل العمل الحكومي المشترك بين لبنان وسوريا، وما يعكسه الأمر من عودة للحياة إلى عدّة مصادر دخل، ولا سيّما خطّ الترانزيت، الذي يشكّل شرياناً اقتصادياً من بيروت إلى بغداد والخليج.
وإن كان دياب قد قرّر البدء بزياراته الخارجية بجولة خليجية، فإن عون، الذي سبقه إلى السعودية في أول زيارة خارجية له بعد انتخابه، سيكون في المرحلة المقبلة أمام استحقاق تطوير العلاقة مع سوريا، وشقّ الطريق للحكومة أمام التعاون الاقتصادي ومعالجة ملفّ النازحين، من دولة إلى دولة. إذ ليس خافياً أن سوريا، طوال المرحلة الماضية، لم تردّ طلباً لبنانياً من حلفائها للقيام بتسهيلات معيّنة، منها الآلية التي يتمّ اعتمادها عبر الأمن العام اللبناني لإعادة النازحين إلى سوريا وشراء محاصيل الحمضيات والموز. إلّا أن الرئيس بشّار الأسد لم يعد يخفي أمام مراجعيه من اللبنانيين «ملله» من التعامل مع الملفّات على القطعة، وباتت الدولة السورية تربط التعاون الاقتصادي بالعلاقة الرسمية الفاعلة بين الدولتين.
في الآونة الأخيرة، وصلت إلى عون عدة رسائل دعم روسية من مصدرين على الأقل، (منح الرئيس فلاديمير بوتين مستشار عون للشؤون الروسية النائب السابق أمل أبو زيد وساماً رفيعاً)، جميعها تؤكّد نيّة موسكو المساهمة في مساعدة لبنان على الخروج من أزمته، في إطار تعاوني، يكون تطوير العلاقة مع سوريا جزءاً أساسياً منه. فمنذ زيارة عون لموسكو ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين في آذار الماضي، بقيت العلاقة بين البلدين بعيدةً عن التطور الذي تحدّث به الرجلان، وكذلك علاقة لبنان بسوريا، التي تسعى روسيا إلى تثبيت الاستقرار فيها.
وينطلق الروس من دور موسكو الجديد في الشرق الأوسط بعد القضاء على الإرهاب في سوريا، وعلاقاتهم المتشعبة مع المتحاربين من إيران إلى تركيا والخليج وإسرائيل وشمال افريقيا، في مقابل علاقات أميركية مأزومة مع دول عديدة، ومن المتوقّع أن تتفاقم مع إعلان الرئيس دونالد ترامب صفقة القرن. وروسيا التي خاضت حرب الحفاظ على الدولة السورية وعلى وحدة سوريا، تخشى اليوم من مساعٍ أميركية متقدّمة لتقسيم العراق، لن يكون لبنان بعيداً عنها، وبالتالي، إعادة هز الاستقرار السوري وتفاقم التهديدات من جديد.
وبحسب معلومات «الأخبار»، تبدي روسيا استعدادها لمساعدة لبنان في ملفّات عديدة، أوّلها الملفّ المالي. فعدا عن الخطّ الائتماني الروسي للبنان، والذي بدأ الحديث عنه أواخر أيام الحكومة الماضية، وجرى نقاش حوله بين دياب والسفير الروسي في بيروت ألكسندر زاسبيكين قبل يومين، تضع روسيا في حساباتها تقديم قرض ميسّر للبنان لـ 30 عاماً، تتراوح قيمته بين 600 مليون دولار ومليار دولار، على أن تكون آلية صرفه خاضعة لمعايير شفافة وفي مشاريع واضحة تعود بالفائدة على الوضع الاقتصادي والمالي. ويقول متابعون لهذا الشأن إن موسكو إن لمست جديّة في صرف هذا المبلغ في مكانه الصحيح، لا تمانع حتى بتحويله إلى هبة في السنوات المقبلة.
مع حسان دياب، تحرر عون من «لاءات» الحريري بخصوص سوريا

ليس هذا فحسب، يخطّط الروس لدعم لبنان بوديعة مصرفيّة بمبلغ مليار دولار، تساهم في إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي وضخّ عملة صعبة لدعم الليرة والسعي الجدي لافتتاح مصرف روسي في لبنان أو المساهمة في أحد المصارف. وإذا صحّت الأنباء عن اتفاق أوّلي بين الحكومة السورية وروسيا لقيام الأخيرة بتطوير شبكة السكك الحديد السورية وربطها بالعراق، فإن روسيا ستكون مهتمةً جداً بشبكة السكك الحديد اللبنانية، ومعنيّة بمصيرها.
ولا يغيب عن الحسابات مستقبل التنقيب عن الغاز في البحر اللبناني، ولا سيّما الحقول الشمالية، وارتباطها بالحقول السورية في طرطوس، وموقع لبنان في شبكة أنابيب النقل من المتوسط إلى أوروبا، التي لم ترتسم صورتها النهائية بعد، وخصوصاً في ظلّ الدور الروسي في تحالف الشركات الذي سينقّب عن النفط في الشمال والجنوب، وفوز الروس بمناقصة خزانات النفط في البداوي. وتتوقّع موسكو انطلاق جولة جديدة من الضغوط الأميركية على لبنان للوصول إلى تسوية في «النزاع البحري» مع العدو الإٍسرائيلي.
غير أن الإيجابية الروسية لن تتحوّل إلى مشاريع قابلة للتحقيق، طالما أن لبنان لم يطلبها من موسكو بصورة رسميّة بعد. ولا يُغفل الروس حسابات عون، وردّة الفعل الأميركية المتوقّعة، بتحريض الخليج وممارسة ضغوط على لبنان، في حال سير رئيس الجمهورية والحكومة بتوجهات جديدة.