أثير في الأيام الأخيرة جدل واسع، سياسي ودستوري، من حول التئام البرلمان لمناقشة الموازنة والتصويت عليها قبل نيل الحكومة الجديدة الثقة، وهي التي ستمثل أمامه من دون أن تكون قد وضعت المشروع ولا اطّلعت عليه ولا وافقت، وتالياً تحمّل عبء الدفاع عنه. ليس في الحكومة الجديدة أحد من وزراء الحكومة السابقة. وليس ثمة استعداد معلن حتى الآن على الأقل لدى رئيسها حسان دياب، ولا بالتأكيد لدى رئيس المجلس نبيه برّي، للقبول باسترداد الحكومة موازنة أعدّتها حكومة الرئيس سعد الحريري لتعديلها على الأقل.في الساعات الثماني والأربعين التي تسبق انعقاد جلسة الاثنين، ناقشت اللجنة الوزارية، على هامش بحثها في البيان الوزاري أمس، دستورية المثول، معوّلة على بضعة آراء واجتهادات تناقض وجهة نظر رئيس البرلمان، ولا تتحمّس لانعقاد جلسة الموازنة قبل حصول الحكومة على الثقة. ناهيك بفكرة استرداد الموازنة، رغم ثقل عامل الوقت، مع أن الاسترداد تقليد متبع بين علاقة السلطتين الاشتراعية والإجرائية. في الغالب، تفضّل كل حكومة جديدة، في أول مثول لها أمام البرلمان، استرداد بعض مشاريع القوانين المحالة إليه من سابقتها لإعادة مراجعتها، وخصوصاً إذا كانت تحمّل الحكومة الجديدة أعباء أو التزامات إضافية يقتضي أن تقدّرها هي بدورها.
في حصيلة مناقشات اللجنة الوزارية، ترك القرار لرئيس الحكومة ولتواصله مع رئيس المجلس حيال بتّ جلسة الاثنين، مع أن رأي دياب يلاقي الآراء والاجتهادات تلك، ويفضّل الخيارين الآخرين: الذهاب الى الموازنة بعد نيل حكومته الثقة، وضرورة التأنّي في التصويت على موازنة سيتحمّل وزرها. ربما كان المخرج أن لا تشارك حكومة دياب في الجلسة، أو تكتفي برئيسها، من غير عرقلة إقرار التصويت على الموازنة، إذا كان رئيس البرلمان مصرّاً عليه.
كذلك من المبكر وقوع أول اشتباك بين السلطتين حيال هذه المشكلة.
أما موقف برّي، ففي المقلب الآخر تماماً.
لأسبوعين خلوَا، قبل صدور مراسيم الحكومة الجديدة، عندما حدد موعداً أول لجلسة الموازنة في 22 كانون الثاني و23 منه، ثم بعد صدور المراسيم في 21 كانون الثاني وإرجاء انعقاد الجلسة الى بعد غد الاثنين 27 كانون الثاني، تمسّك رئيس المجلس بوجهة نظر تركزت على الآتي:
1 ــــ في اعتقاده «ليس لأي حكومة جديدة أن تباشر ممارسة الحكم وصلاحياتها قبل نيلها الثقة التي يمنحها لها البرلمان، كي تمسي كياناً دستورياً صحيحاً غير مشوب بعيب».
2 ــــ يرى أنه مقيّد بمهلة 31 كانون الثاني لإنجاز الموازنة، وهو ما تنص عليه المادة 32 من الدستور، ولا يسعه الخوض في أي مسألة أخرى قبل التصويت عليها. أضف إن كانون الثاني هو عقد استثنائي، نجم عن تعذر إقرار الموازنة قبل نهاية العقد العادي الثاني من منتصف تشرين الأول حتى نهاية السنة.
3 ــــ بحسب ما يدلي به برّي، فإن البرلمان تسلّم مشروع الموازنة بمرسوم إحالة إبان حكومة الحريري وجّهته في 21 تشرين الأول، قبل أيام على استقالتها، وكان مقرراً مباشرة مناقشتها في الثلث الثالث من تشرين الأول، بالتزامن مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول التي تعذّر معها التئام المجلس واجتماع اللجنة النيابية للمال والموازنة التي أحيل المشروع إليها في 26 تشرين الأول. بيد أن ذلك ــــ رغم انقضاء هذا الوقت من دون مناقشتها ولا التصويت عليها تالياً ــــ لا يحجب رأياً لدى بري بأن مشروع موازنة 2020 «مذ أحيل الى المجلس أضحى تحت ولايته، بدءاً من اللجان وصولاً الى الهيئة العامة».
يضيف إنه مذ وجّه الدعوة الى جلسة 21 كانون الثاني لمناقشة المشروع، في ظل حكومة تصريف الأعمال، بات يعتبر الموازنة «أضحت البند الوحيد في جدول أعمال المجلس الذي لا يسعه الخوض في أي أمر آخر قبل التصويت عليها». قال أيضاً إن الوصول الى جلسة مناقشتها «كان يحتّم على حكومة تصريف الأعمال ــــ التي وضعتها ــــ المثول أمام المجلس لإقرارها. في حال تأليف حكومة جديدة، فإن هذه تصبح هي المعنية بالمثول أمام المجلس لمناقشة المشروع، وإن لم تكن هي التي وضعته، قبل نيلها الثقة حتى، ما دامت المادتان 32 و86 من الدستور تضعان الموازنة ما بين منتصف تشرين الأول حتى نهاية العقد الاستثنائي تحت ولاية البرلمان قبل أي أمر آخر».
بل الأخطر في رأيه أن انقضاء العقد الاستثنائي من غير التصويت على الموازنة «يضع هذه مجدداً بين يدي مجلس الوزراء، ومن ثم إصدار رئيس الجمهورية مرسوماً يجعل الموازنة نافذة وفق الصيغة التي أحيلت بها الى مجلس النواب في المرة الأولى. وهو أمر يسيء الى المجلس ويُظهر كأنه تلكأ في واجبه الدستوري».
تمثل حكومة دياب أمام المجلس أو لا تمثل؟


4 ــــ استند برّي الى الفقرة الثانية في المادة 64 التي تجيز مثول حكومة جديدة لم تنل الثقة بعد أمام مجلس النواب كونها ــــ حتى نيلها ــــ حكومة تصريف أعمال على غرار الحكومة المستقيلة التي طويت صفحتها. وهو ما تلحظه الفقرة الثانية، إذ تورد: «... ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال». بذلك يقول رئيس المجلس إن مثولها دستوري وملزم.
على أن وجهة نظر رئيس الحكومة حيال تصريف الأعمال تبدو مختلفة: تقرّ بهذا المبدأ الدستوري في المعنى الضيّق للكلمة، أي تصريف الأعمال في ذاته بلا تشريع، من غير أن يصل الأمر بالحكومة الجديدة الى المثول أمام البرلمان قبل نيل الثقة. وهو مغزى ما أثير على هامش اجتماع لجنة البيان الوزاري.
5 ــــ يشدد رئيس المجلس في ضوء الكمّ الكبير من مواقف عواصم الغرب على أولوية الموازنة، على أنها أولى الخطوات الإصلاحية البنيوية التي يقتضي بالحكومة الجديدة القيام بها في أسرع وقت، دونما منحها مهلة سماح على غرار تلك التي سبقتها في أحوال عادية. يقول إن الأوضاع الاستثنائية تحتم هذا الاستعجال، وسيباشره البرلمان بدءاً بإقرار الموازنة. يذهب الى أبعد من ذلك في القول: «لو سُمح لنا في الأشهر المنصرمة منذ 17 تشرين الأول بالتئام المجلس، لكان أنجز عدداً كبيراً من القوانين الإصلاحية المطلوبة في أدراجه. كانت أقل من 30 مشروعاً، فأضحت الآن 53 قانوناً مؤجلاً».