بين مار مخايل وبعبدا، لن تتردّد حارة حريك في اختيار الأولى. وبين التفاهم مع ميشال عون وإيجاد مخرج لمعضلة رئاسة الجمهورية، لن يفرّط حزب الله بالتفاهم الذي أثبتت سنوات العقد الماضي متانته وقوته، خصوصاً في ضوء المعطيات الميدانية على مختلف الجبهات في المنطقة، والتي يراها لمصلحته. وعليه، بات واضحاً للجميع، حلفاء الحزب وخصومه، أن موقفه «نهائي وقاطع ولا تراجع عنه» في الاستمرار في دعم ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة ما بقي هو مرشحاً. وأوّل المبلّغين بذلك والمتفهّمين له حليفه الوثيق النائب سليمان فرنجية، وخصمه اللدود تيار المستقبل. في جلسة الحوار الأخيرة بين الحزب والتيار في عين التينة، ألحّ وزير الداخلية نهاد المشنوق على المعاون السياسي للأمين العام للحزب الحاج حسين الخليل في العمل لإقناع عون بالسير في «تسوية فرنجية»، على أن يتولى المستقبل إقناع القوات اللبنانية، فكان جواب الخليل واضحاً: «نحن ملتزمون بعون علناً وسراً، وهذا الموضوع أبلغناه لفرنجية نفسه». لقاء باريس في غضون ذلك، تكشّف المزيد من الوقائع التي أدّت الى انعقاد لقاء باريس بين زعيم تيار المردة والرئيس سعد الحريري. مصادر مطلعة أكدت لـ «الأخبار» أن السفير الأميركي السابق ديفيد هيل هو «صاحب براءة الاختراع» في ترشيح زعيم بنشعي. هيل كان في فترة من الفترات متحمّساً لترشيح العماد عون للرئاسة، وهو زار الرياض لهذه الغاية قبل وفاة ملكها السابق عبدالله، وحاول تسويق الأمر لدى السعوديين. وترافق ذلك مع «تركيب» لقاء باريس بين الحريري وعون والحوارات التي تلته على مدى شهور بين الوزير جبران باسيل ونادر الحريري. توطّدت العلاقة بين الطرفين الى حدّ توجيه دعوة لعون ــ كاد يلبّيها قبل أن يعدل في اللحظات الأخيرة ــ لحضور احتفال ذكرى 14 شباط الماضي، بعدما أُبلغ بأن الحريري سيحضره شخصياً. إلا أن أوضاع المنطقة لم تكن قد نضجت بعد، ولم تكن الرياض في صدد إعطاء «مكافأة» لحزب الله الذي تقاتله في سوريا. فرفعت البطاقة الحمراء في وجه جنرال الرابية، وعادت الأمور الى النقطة الصفر: عون مرفوض، فرص جعجع معدومة، الرئيس أمين الجميل وفرنجية ليسا في الصورة.
برّي يحذّر من «نزع الطبخة» ولقاء
«قريباً جداً» بين عون وفرنجية
عاود هيل البحث. بعد مشاورات مع مختلف القوى السياسية وصل الى اقتناع بأن لا إمكانية لإزاحة عون إلا... بفرنجية. لن يكون في مقدور حزب الله رفض عرض مغرٍ كهذا، فضلاً عن أن موقفه من اتفاق الطائف يلبّي مطلباً سعودياً أساسياً بعدم المس بهذا الاتفاق الذي أعطى صلاحيات مطلقة لحلفائها. طرح الفكرة على جنبلاط الذي وزنها جيداً: ما قد نقدمه اليوم قد نكون مضطرين إلى تقديم أكثر منه مستقبلاً مع تغيّر الوضع في سوريا. بهذا، نكسر عون ونحرج حزب الله ونعيد البلد الى السكة التي خرج عنها عام 2005. أُرسلت أولى الاشارات الى فرنجية فأبدى تجاوباً. في 29 تشرين الأول، التقى الأخير مفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار في طرابلس. أثناء اللقاء، تلقّى الشعار اتصالاً من الحريري. طلب الأخير تمرير الهاتف لفرنجية، وتحدثا لنحو ساعة في ضرورة إخراج البلاد من مأزقها، وطرح عليه فكرة ترشيحه، وتم الاتفاق مبدئياً على اللقاء في باريس. اتصل فرنجية بدمشق التي استغربت الطرح الحريري الذي لا يمكن إلا أن يكون بدعم سعودي، واقترحت عليه مراجعة السيد حسن نصرالله. تواصل فرنجية مع أحد المسؤولين الرفيعين في الحزب، فطُرحت تساؤلات حول أهداف الطرح، بما فيها المناورة أو محاولة شق الصف. وفي النهاية كانت النصيحة: افعل ما تراه مناسباً... ليتوجّه بعدها الى العاصمة الفرنسية. في لقائه مع الحريري، سمع فرنجية تأكيداً بأن طرحه يحظى بموافقة سعودية «على أرفع مستوى». وأكّد له أن الرياض مستعدة لاستقباله فوراً للبحث في الأمر، فيما فضّل الأخير التريّث. وتطرّق البحث الى مختلف المواضيع، لكن المصادر تؤكّد أن فرنجية لم يتعهّد بأي قانون انتخاب، رغم أنه لا يخفي تأييده لقانون الستين، وأن الاتفاق تم على أن القانون ينبغي أن يرضي الجميع. إلا أن أهم ما طلبه الحريري بوضوح: بغض النظر عن قانون الانتخاب، مقابل رئاستك لست سنوات، أكون رئيساً لكل حكومات العهد، مع ضمانة من حزب الله بعدم إسقاط حكومتي. لم يعطِ فرنجية أيّ تعهدات، وانتهى اللقاء باتفاق على أن يشتغل كل منهما على فريقه. مع عودة فرنجية، وتأكيده للحزب أن الطرح الحريري مدعوم سعودياً، ساد التوتر في الرابية. بداية جرى التعاطي مع الترشيح كمناورة، قبل أن يتبيّن أنه جدّي. شخصت الأنظار الى حارة حريك، وتسارعت الاتصالات مع الحزب. التقى باسيل رئيس وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا، قبل أن يزور صفا والخليل عون الذي سمع منهما بوضوح: «نحن الى جانبك ما دمت مرشحاً. ولا تراجع عن أي التزام التزمناه معك». ونُقل عن عون قوله: «أثق بضمانة السيد، وهذا يكفيني». بعدها بدأت الاتصالات لتبريد جبهة الرابية ــ بنشعي: زار فرنجية باسيل في البترون، وأكّد الأول في كل مناسبة على عمق العلاقة مع عون، على أن يُعقد لقاء بين الرجلين «قريباً جداً». توتر في معراب الهدوء في الرابية قابله ارتفاع كبير في منسوب التوتر في معراب. يدرك جعجع أن ميثاقية أيّ جلسة يحدّدها في شكل رئيسي موقف عون. تعامل الحلفاء معه بلامبالاة سبب آخر للتوتر. وهو غير قادر على هضم كيف أن 14 آذار انتقلت من ترشيحه كأحد صقورها الى ترشيح أحد صقور 8 آذار. استنفر اتصالاته، وأكّد لعون أن «خطاً في السعودية، وليس السعودية»، هو من يروّج للتسوية. وتنقل مصادر أن رئيس القوات تلقّى اتصالاً من وليّ العهد محمد بن نايف أكّد له فيه أن «هذه المهزلة لن تستمر طويلاً، وليس هناك قرار سعودي بترشيح فرنجية»، علماً بأن المعلومات تؤكّد أن الضغط الاعلامي والنفسي عليه قد بدأ، تحت شعار أن «الأمور ستمشي ولو من دونكم». وعلمت «الأخبار» أن دعوة وُجّهت اليه لزيارة السعودية خلال أيام. البطاقة الحمراء في وجه التسوية في يده. يرشّح عون فيقطع الطريق على فرنجية ويكسب الجمهور المسيحي. لكنه يدرك أن رفعها سيكون في وجه السعودية، مع ما لذلك من تبعات.
جعجع الى الرياض
هذا الأسبوع والضغط
السعودي يتزايد عليه
في ضوء ذلك، تبدو الخريطة السياسية بعد أكثر من أسبوعين على لقاء باريس، بين فرنجية والحريري، على الشكل الآتي: ــ تحالف مسيحي ضد التسوية، قوامه معراب والرابية (وبكفيا بعدما تردّد أن النائب سامي الجميّل أبلغ السفير السعودي الذي زاره أمس عدم موافقة الكتائب على ترشيح فرنجية). ــ تحالف إسلامي داعم للتسوية يضم الحريري وجنبلاط والرئيس نبيه بري. والأخير يبدو أكثر المستعجلين، إذ نقل عنه قوله إنه في حال لم يُنتخب فرنجية في جلسة 16 الجاري، فهذا سيعني أن «الطبخة مودرت» (انتزعت). ــ فرنجية مدرك صعوبة السير في التسوية، رغم حماسته، من دون دعم طرفين رئيسيين هما أصلاً حليفاه. ــ ضغط فرنسي وفاتيكاني كبير على البطريرك بشارة الراعي للسير في التسوية. ــ حزب الله ثابت وراء عون، مع كثير من التريّث ووزن الأمور بميزان الذهب، حرصاً على عدم خسارة أيّ من حليفيه، مع شبه اقتناع بأن من الصعب أن يقبل فرنجية بأن يأتي بأصوات خصومه ولا ينتخبه حلفاؤه، وبأن من الصعب أن يحدّد بري موعداً لجلسة انتخابية من دون موافقة الحزب. لا قلق لدى الحزب من المخاطر: الخصوم قرأوا الوضع الاقليمي جيداً هذه المرة، وهم المستعجلون. وبعدما كان التنافس بين مرشحين غير مقبولين من 8 و14 آذار، بات التنافس بين مرشحين من 8 آذار، أحدهما مقبول والثاني محتمل. باختصار، الحلّ لا يزال في جيب ميشال عون: إذا وافق على ترشيح فرنجية «تمشي الأمور»، وإلا فلا شيء مستعجلاً والأمور ستبقى تراوح مكانها، ولا جلسة انتخاب في القريب العاجل.