في لبنان، كما في عدد غير قليل من دول المنطقة، حشد هائل من السياسيين والمواطنين «القدريين» ازاء الولايات المتحدة. لا نعرف الوقت الذي تحتاجه البشرية حتى تتخلص من وهم القوة المطلقة لاميركا في العالم. لكن، في هذه الاثناء، يفترض جميع من يتوسل رضى العم سام ان لا مجال لمقاومتها، وان ما تقرره سيحصل طوعاً او غصباً. وحتى عندما تهزم اميركا، فان هؤلاء يعتبرون الامر مجرد مناورة ارادتها واشنطن. وفي هذه الحالة، لا يكون من هزم اميركا، في نظر هؤلاء، بطلا قادرا، بل عميلا متخفيا اعطته هذه المنحة ليمرر لها ما تريد. الانكى من كل ذلك، هو ان يخرج هؤلاء المتسابقون لنيل رضى اميركا، الى انتقاد ايران من زاوية ان «ردها على اغتيال سليماني كان بلا أثر»... واللطيف أن اياً منهم لا يجرؤ على انتقاد السياسة الاميركية، واذ به يعتبر قصف قاعدة عسكرية أميركية حدثاً تافهاً!أصحاب هذه الوجهة في عالمنا العربي لا يبرّرون هزيمتهم الدائمة أمام الاميركيين. يرفضون فكرة ان في مقدور احد مقاومة الوجود والتأثير الاميركيين. وهم، بذلك، يعتقدون بأنهم يقدّمون الحجة على وجود القوات الاميركية في ديارهم، او قبولهم بالقوانين الاميركية لادارة شؤون الكون. ينتشر هؤلاء في أرجاء المعمورة. لكنهم كثر في السعودية والامارات وقطر والكويت. وفي بلد مثل لبنان، يكون للمشهد لون وطعم مختلفان.

واشنطن لا تزال تراهن على استغلال الحراك الشعبي لاحداث تغييرات كبيرة في الادارة السياسية والمالية للبلاد (هيثم الموسوي)

بعض من يتصرفون بصفتهم من قادة الثوار في لبنان (من صنف «السلميين» جداً تحديداً) يراهنون بقوة على ان الولايات المتحدة ستحقق حلم اللبنانيين بانهاء حكم الفساد. هذا الصنف من الثوار المنتشرين على الشاشات والموجودين على الارض (في التظاهرات السلمية حصراً) يعتقد ويتصرف على أساس ان الولايات المتحدة «اخذت قرارا نهائيا بدعم ثورة الشعب اللبناني ضد الفساد». ولا حاجة، بالطبع، لشرح موقف هؤلاء «الثوار» وهم يرفضون تحميل اميركا اي مسؤولية عن خراب لبنان كما عن خراب المنطقة.
لكن، لنأخذ مثلاً عما يتناقله «ثوار اميركا»، من الموجودين في مواقع نفوذ داخل الدولة او في الساحات. وفي ذلك، عينة مما يفترض انه «خطة اميركية» خاصة بلبنان في المرحلة المقبلة، ورد جزء منها في محاضر جرى تداولها على مستوى قيادات رسمية بارزة، سياسية ودبلوماسية.
من آخر هذه التصورات، ما عاد به زوار بارزون من واشنطن ونيويورك قبل نهاية السنة الماضية. بين هؤلاء من ينشط في السياسة وعالم المال والاعمال ايضا، رجعوا إلينا بأنباء عن «تغييرات سريعة وعميقة ودائمة تتوقعها الولايات المتحدة في لبنان خلال الفترة المقبلة». وقال هؤلاء ان «واشنطن تدعو اللبنانيين الى التصرف بمسؤولية كون عملية التغيير ستكون قاسية ومؤلمة، لكنها ستفتح الباب امام مستقبل افضل على المدى الطويل».
وعلمت «الاخبار» ان مسؤولين كباراً في الدولة، جرى اطلاعهم في وقت لاحق على ما اصطلح على تسميته بـ«ورقة افكار اميركية» تم جمعها بعد لقاءات عقدت بين العاشر والثاني والعشرين من كانون الاول من العام 2019، وشملت مسؤولين اميركيين يعملون في وزارتي الخارجية والخزانة، وفي الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي الاميركي) اضافة الى «مقربين من اجهزة الاستخبارات».
وبحسب ما علمت «الأخبار»، فان مرجعا رئاسيا لفت الى «ان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يتصرف على خلفية هذه المعطيات الاميركية. وانه مستمر بالتذرع بامور ادارية وتقنية وبالسرية المصرفية لعدم الكشف عن مخالفات كبيرة حصلت خلال العام الماضي». ويرى المرجع الرئاسي ان المعلومات «تدل على ازمة كبيرة ستواجه القطاع المصرفي، وان رياض سلامة يحاول رمي المسؤولية على الاخرين وخصوصا على القوى السياسية».
ويبدو ان سلامة يدير بمساعدة بعض اصحاب المصارف، ولا سيما رئيس الجمعية سليم صفير، معركة «تبييض صفحة» القطاع، ويستخدم هؤلاء بالتعاون مع مصرفيين من الفئة الدنيا، كل ما يملكون من نفوذ لابقاء القطاع وسلامة وجمعية المصارف خارج مشهد الاحتجاجات الشعبية. حتى ان سلامة لا يتوانى - وهذا حقه - عن الاستعانة بجيش من المستشارين والاعلاميين والسياسيين والامنيين والمصرفيين، الذين سبق ان وفر لهم الخدمات، ليطلب منهم الوقوف الى جانبه في هذه اللحظات الحرجة.
واتيح لـ«الاخبار» الاطلاع على ملف موثق يخضع لعملية تدقيق كبيرة، يتضمن موجزا عن عمليات مالية كبيرة حصلت خلال السنوات القليلة الماضية، تخص سلامة نفسه وآخرين من نافذين في القطاع المصرفي ومن شخصيات بارزة. وحسب المعطيات، فان المعنيين بما اصطلح على تسميته بـ«ملف الاموال المهربة» بدأوا يكتشفون معطيات تخص التواطؤ بين سلامة وبين مصرفيين كبار وشخصيات سياسية ورجال اعمال. كذلك عكست المعلومات حجم التدخل في الحياة السياسية والتشريعية والاعلامية، خصوصاً عمليات الاقراض الكبيرة لغالبية الوسائل الاعلامية اللبنانية، من تلفزيونات وصحف واذاعات ووكالات تتعاطى الانتاج الاعلامي والاعلاني، والتي تولى سلامة الاشراف عليها مباشرة، وخضعت لموافقته، وتولت مصارف عدة ادارة الجانب المالي منها. وكان هدف عمليات الاقراض تلك منع اي نقاش حول الواقع المالي والنقدي في لبنان. وهي التي اتاحت ولا تزال لسلامة وآخرين ممارسة نفوذهم القوي على وسائل اعلامية بارزة في لبنان، وهو ما ظهر بصورة كبيرة خلال الاشهر الثلاثة الماضية في اداء قناتي «مر تي في؛ و«الجديد»، مع تمايز نسبي لقناة «ال بي سي آي». بينما تولت جهات قريبة من سلامة ومن نافذين في جمعية المصارف، تسويق المعلومات الخاطئة غبر مواقع الكترونية اخبارية يديرها «منتحلو صفة»، ومن خلال اعلاميين وبعض الشخصيات التي يجري تقديمها بصفة خبراء متخصصين في الشأنين المالي والاقتصادي.
وصايا واشنطن
بالعودة الى نتائج الزيارات الخاصة الى العاصمة الاميركية، اظهرت معلومات حصلت عليها «الاخبار»، ولم تنفها «مصادر مأذون لها»، ان الولايات المتحدة لا تزال تراهن على امكانية استغلال الحراك الشعبي لاحداث تغييرات كبيرة على صعيد الادارة السياسية والمالية للبلاد. وكشفت المعلومات ان «واشنطن مستعدة كما هي حالها في كثير من البلدان، للتخلي عن حلفاء عملوا معها طوال العقدين الماضيين، وانها ستطيح بعدد منهم بحجة الفساد وتستثمر ذلك في معركة تغيير سياسي شاملة في البلاد هدفها الامساك مجددا بالسلطات المالية والعسكرية والامنية والمصرفية».
وبحسب المعلومات نفسها، فان ما يروج له حلفاء اميركا في لبنان من خطوات تنوي واشنطن القيام بها، يقع ضمن البرنامج الاتي:
1- ستصدر الولايات المتحدة قائمة عقوبات جديدة في المستقبل غير البعيد، تضم قائمة أفراد من الوزن الثقيل، من المحسوبين على جهات سياسية مختلفة، وليس حصراً من فريق 8 اذار او المقربين من حزب الله. وجرى تداول عدد غير قليل من الاسماء (القريبة من الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل) في اجتماعات وزارتي الخارجية والخزانة الأميركيتين، ومنهم رجال اعمال معروفون ومتعهدو صفقات عمومية ومصرفيون وتجار عقارات تتهمهم واشنطن بتبييض العملات.
2- العقوبات الجديدة ستستند هذه المرة إلى القانون المعروف باسم «قانون مغنيتسكي» الذي صدر في ولاية الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، والذي فعّله الرئيس دونالد ترامب ليكون عالميا ويتجاوز المواطنين الاميركيين او الموجودين على الاراضي الاميركية، وصار يسمح للحكومة الاميركية بفرض عقوبات على الأفراد والكيانات في جميع أنحاء العالم من دون الإشارة إلى الجنسية أو البلد.
بعض «الثوار» يتصرف على أساس ان هناك قراراً أميركياً نهائياً بدعم ثورة اللبنانيين ضد الفساد


3- تؤكد تقارير دبلوماسية ومحاضر اجتماعات عقدت في العاصمة الاميركية، ان وزارتي الخارجية والخزانة و«الاحتياطي الفيدرالي»، اضافة الى جهات اخرى (تتصرف على انها صديقة للبنان) يؤكدون انهم في صدد سياسة جديدة تجاه لبنان، اختاروا لها عنوان مكافحة الفساد. وقال المسؤولون الاميركيون، انهم قرروا اشهار فقدانهم الثقة بغالبية القوى والشخصيات السياسية النافذة في لبنان. وان العمل على مكافحة الفساد لا يقتصر على المقربين من حزب الله، بل على اخرين من قوى وجهات اخرى بينها من اعتبر دائما انه قريب من الإدارة الاميركية. وان طريقة تصرف الحكومة الاميركية الجديد مع الواقع السياسي اللبناني سيختلف جذريا عن السابق. وعلى اللاعبين اللبنانيين التدقيق في طريقة تصرف واشنطن مع ملف تكليف رئيس جديد للحكومة، لأن ما حصل يمكن اعتباره تجسيدا للسياسية الجديدة في واشنطن.
4- تنظر الحكومة الاميركية الى «الحراك الشعبي المستمر» في لبنان على انه مؤشر قوي على استعداد الناس لتغيير كبير. وهذا يعني ان واشنطن ستأخذ في الاعتبار الحاجة الى اطاحة كل الحرس القديم، مع اشارة خاصة الى واقع الرئيس سعد الحريري، «الذي ضعف كثيرا، وبصورة واضحة للجميع. ويرجّح انه سيستسلم للوقائع الجديدة، وسيخرج من اللعبة. وسيكون لبنان امام تحديات جديدة، وربما باتجاه السير نحو اتفاق وطني جديد يرسم مستقبل البلد وفق قواعد جديدة». واللافت، هنا، ان الاميركيين يتحدثون عن احتمالات التقسيم واعتماد لامركزية سياسية...
5- سيكون العام 2020 حافلا بالنشاط في لبنان. واشنطن «تتوقع» تغييرات «كبيرة وسريعة على مختلف الصعد، بما في ذلك اعادة النظر في هيكلة القطاع المصرفي. وعلى الجميع التصرف على ان الوجهة هي خفض عدد مصارف لبنان الى اقل من عشرين بدلا من نحو 64 مصرفا كما هي الحال اليوم. كما ستوضع لائحة بالمصارف المتعثرة لشملها في مشروع الدمج او التصفية. لكن الاهم هو ان المصارف التي خالفت القوانين سيتم التعامل معها كمصارف فاشلة او مهددة بالافلاس، وستتم معاقبتها بطريقة او بأخرى». ويجري الحديث هنا عن دفع بعض المصارف الى التصفية الذاتية.
6- تسوّق واشنطن لفكرة تكليف «جهات دولية» للمساعدة على استعادة «الاموال المنهوبة» عبر مراقبة «الحسابات المشتبه فيها» لتحديد حجم هذه الاموال ومكان وجودها قبل العمل على استعادتها!



ابتزاز وتجنيد
اللطيف في «ورقة الأفكار الأميركية» أن مقربين من واشنطن عمدوا في الاسابيع القليلة الماضية الى تسريب اسماء يقولون انها ستكون على لوائح «الفساد الاميركية». وتبين ان بعض «المشهَّر فيهم» عمدوا فورا الى التواصل مع جهات سياسية وقانونية واعلامية اميركية، بغية الشروع في حملة مضادة تهدف الى تسوية أوضاعهم حيث امكن. ويجري الحديث عن مشاريع تسويات تكون كلفتها مئات الملايين من الدولارات التي يدفعها اللبنانيون «المشتبه فيهم» للسلطات الاميركية مباشرة او من خلال اتفاقات مع مكاتب قانونية أميركية. هذه العملية تأتي تكراراً لما هو حاصل مع كل رجال الاعمال للبنانيين وغير اللبنانيين الذين تقرر الخزانة الاميركية معاقبتهم بتهمة التعاون مع حزب الله. وقد امكن للولايات المتحدة جمع الكثير من الاموال، فضلاً عن تجنيد عدد غير قليل من المخبرين من نادي رجال الاعمال الذين يدلون بمعلومات مفصلة عن رجال اعمال لبنانيين اخرين يعملون في الخليج وافريقيا واميركا الجنوبية، في مقابل ضمان الحماية. وصار جيش المخبرين كبيرا ليشمل مصرفيين لبنانيين يتم تهديدهم باقفال مصارفهم او وضعهم على لائحة العقوبات ان لم يتعاونوا. والتعاون هنا لا يقتصر على تسهيل مراقبة ما تعتقده واشنطن أعمالاً تخص حزب الله، بل يشمل أيضاً تقديم معلومات مفصلة عن كل ما تريده الولايات المتحدة من معطيات تخص افرادا او شركات مرت في دورة لبنان المالية.
ويبدو ان الفريق الامني الاميركي المعني بهذه الاتصالات صار اكثر خبرة في معرفة الخلفية النفسية للمستهدفين. وصار يميز بين القادرين على تحمل الضغوط والعمل كمخبرين امنيين، وبين من لا يقدر على اكثر من دفع الفدية لقاء عدم احتجاز امواله او تعطيل اعماله. ويتولى فريق امني اميركي ادارة هذا الملف، ويعقد الاجتماعات مع رجال اعمال ومصرفيين لبنانيين في دول عدة، من قبرص واليونان وايطاليا وفرنسا ورومانيا وبلغاريا وبريطانيا، الى الامارات العربية المتحدة والاردن والمغرب، بالاضافة الى عواصم في اميركا اللاتينية وكندا.
ويمكن ذات يوم جمع كتاب من الطرائف عن الادارة الاميركية لهذا الملف، وطريقة جمع المعطيات وعمليات التهويل والضغط التي يتعرض لها المستهدفون. وهذه «الطرائف» لا تُظهر ضعفا اميركيا في مجالات عدة فحسب، بل تظهر الدونية المخيفة عند هذه المجموعة من المخبرين اللبنانيين.