أزمة «كنيسة قطر» بين البطريركية الأنطاكية والبطريركية المقدسية، وُضعت على سكّة الحلّ. فالمعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» قبل مدّة، تُفيد بـ«صفقة» تمّت بين بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي وبطريرك القدس وسائر أعمال فلسطين والأردن ثيوفيلوس الثالث، لإنهاء الخلاف الكنسي بينهما والمُستمر منذ عام 2013، يوم قرّر ثيوفيلوس الثالث رسامة الأرشمنديت مكاريوس رئيساً على أبرشية جديدة استُحدثت في قطر، الخطوة التي اعتبرتها «أنطاكية» تعدّياً على حدودها القانونية، وردّت عليها بقطع الشراكة الكنسية مع بطريركية أورشليم. وتؤكّد ثلاثة مصادر تحدّثت معها «الأخبار» (كنسية ومدنية، في «أنطاكية» و«المقدسية») أنّ الاتفاق بين البطريركين يتضمن إعادة «أنطاكية» بسط سيطرتها على كنيسة قطر، في مقابل «غضّ نظر» الأخيرة عن عمليات البيع للأراضي التابعة للبطريركية الأرثوذكسية في فلسطين المحتلة، وعدم التصويب على بطريرك القدس في هذا الخصوص، الذي تسبّبت قضية الأملاك بمعارضة قسم من أبناء الرعية له، وقد عمدوا سابقاً إلى اعتراض موكبه ورميه بالبيض ومحاولة منعه من الوصول إلى كنيسة المهد في بيت لحم. وتُقدّم المصادر الثلاثة مؤشراً إلى صحة كلامها، وهو البيان الصادر عن القمة الروحية المسيحية - الإسلامية، في تموز الماضي، في دار طائفة الموحّدين الدروز. ففي إحدى الفقرات، ذُكر في البيان الرسمي التضامن «مع البطريركية الأرثوذكسية المقدسية في سعيها إلى الحفاظ على ممتلكاتها». جرى اعتماد هذه الصيغة «بعد تدخّل يازجي وإصراره على تعديل الفقرة، وكأنّه أراد توفير الحماية المعنوية للكنيسة»، بحسب المصادر. فَنَصّ البيان الأساسي (حصلت «الأخبار» على نسخة منه) كان يذكر التضامن «مع مسيحيي القدس في رفضهم لبيع أملاك الوقف الكنسي ولكلّ محاولات تغيير هوية المدينة المقدسة».تواصلت «الأخبار» مع البطريركية الأنطاكية للحصول على ردّها، إلا أنّها لم تتلقَّ أي جواب، لا على الرسالة الإلكترونية التي أرسلتها، ولا على الموعد الذي طلبته، منذ قرابة الأربعة أشهر، من سكرتيرية البطريركية في البلمند. تماماً كما لم يصل ردّ على الرسالة الإلكترونية التي أُرسلت إلى «المقدسية». إلا أنّ أحد المُقربين من يازجي، والمُكلفين منه بمَهمة رسمية، يؤكد طلب تعديل النصّ «لأنّ الصيغة الأولى كانت توحي أنّ الكنيسة تبيع الأراضي وتقف ضد شعبها، وهذا غير صحيح. البطريركية اضطرت أن تؤجّر الأراضي لأنّه أهون الشرّين». استخدام عبارة «تأجير» عوض بيع، وتصوير الأمر وكأنّه تمّ بالإكراه، يبدو أشبه «بالتضليل». يُصرّ المصدر المُقرّب من يازجي على تحييد البطريركية المقدسية بالسؤال إن كانت «البطريركية تقدر أن تقف في وجه الكيان الصهيوني الذي يعتمد سياسة التوسّع الاستيطاني؟ فضلاً عن وجود تأكيدات بأنّه لم يتم التخلّي عن أراضي الكنيسة، بل هي اضطرت أن تؤجّرها منعاً لمصادرتها». هو منطق الخنوع أمام الكيان الصهيوني، الذي يستفيد من نشره على أوسع نطاق بين مجموعات سياسية وثقافية ودينية، لتحييدها عن خوض الحرب معه. «ماذا كان بإمكان البطريركية أن تفعل؟»، يردّ المُقرب من يازجي. بعدم توافر الأدوات اللازمة لدى الكنيسة لخوض مواجهة عسكرية مع العدّو، ليس مطلوباً منها أكثر من موقف للحفاظ على الأرض. الجواب أيضاً: «البطريرك المقدسي مُضطر أن يستخدم الحكمة في التعامل مع الإسرائيلي»، مع تأكيد أنّه «في مطلق الأحوال، يازجي لم ولن يوافق على بيع أملاك الكنيسة المقدسية». ويُضيف أنّه «في الأصل لا مونة لنا على البطريركية في القدس في اتخاذها للقرارات». وفي هذا الإطار، توضح مصادر أرثوذكسية أنّ البطريركيات «تتفادى التدخّل في شؤون بعضها البعض، حتى لا يُسائلها أحدٌ عن أمورها الداخلية».
آخر لقاء أُعلن عنه بين يازجي وثيوفيلوس الثالث، عُقد في 18 نيسان الماضي، على هامش لقاء رؤساء الكنائس الأرثوذكسية في الشرق الأوسط في قبرص، «وتبادل صاحبا الغبطة مختلف وجهات النظر حول المسألة التي تشغل الكنيستين، وعبّرا عن عزمهما الصادق ونيّتهما الصالحة بأن يتمّ تجاوز هذه المشاكل في القريب العاجل، كي تصل الكنيستان إلى الشركة الافخارستية المبتغاة»، بحسب البيان المنشور على موقع البطريركية الأنطاكية الالكتروني. استُبق اللقاء، باجتماع يازجي في 15 نيسان بوفد من اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس في فلسطين برئاسة رمزي خوري. لم يصدر يومها شيء له علاقة بالشراكة الكنسية بين «أنطاكية» و«المقدسية»، لذلك بدا لقاء قبرص مُستغرباً ومن «خارج السياق». يُعلّق مطران من بطريركية أورشليم بأنّه «فجأة التقيا في قبرص، رغم أنّ «المقدسية» لا تزال مُصرّة على الاحتفاظ بالوصاية على كنيسة قطر، ولم يصدر شيء عن المجمع الأنطاكي بإنهاء تعليق الشراكة الكنسية مع بطريركيتنا. بعد ذلك أرسل ثيوفيلوس الثالث، أحد المطارنة العرب في البطريركية يُرافقه محامٍ، للاجتماع بيازجي في البلمند. اتخذ اللقاء طابعاً سرّياً، واقتصر على الشخصيات الثلاث، ما أدّى إلى ارتفاع شكوكنا حول وجود اتفاق بين يازجي وثيوفيلوس الثالث، تكون أملاكنا في القدس ضحيته».
يرفض المصدر المُقرّب من يازجي الكشف عن تفاصيل لها علاقة باستعادة كنيسة قطر، وينفي علمه بأي اجتماع في البلمند، إلا أنّه يقول: «الخلاف حول كنيسة قطر أصبح وراءَنا، ولم يعد عائقاً». على ماذا اتفق البطريركان؟ «هذه أمور تُحلّ داخلياً، وتُعلن حين يتمّ الانتهاء منها». ولكن ما الذي استجد حتى تحلّ المحبة على العلاقة، رغم أنّ الوقائع لم تتبدّل؟ «نحن العائلة الأرثوذكسية دورنا كبير في اجتماع اللجنة التنفيذية للجمعية العمومية المقبلة لمجلس كنائس الشرق الأوسط عام 2020، لا مصلحة لأن تكون بطريركيّتا أنطاكية والقدس مختلفتين».
يتزامن خبر الاتفاق بين يازجي وثيوفيلوس، مع مُصادقة المحكمة العليا الإسرائيلية، في حزيران، على بيع أملاك للبطريركية الأرثوذكسية لمصلحة جمعية «عطيرت كوهانيم». قيل يومها إنّ البطريركية قدّمت ما لديها من مستندات لإثبات أنّ عملية البيع التي تمّت عام 2017 غير قانونية، إلا أنّ الطعن الذي تقدّمت به قد أُلغي. «ما حصل أمام القضاء، كان ذرّاً للرماد في العيون للتمويه وتشويه الحقائق»، يقول رجل الدين من «المقدسية». ويُضيف أحد الباحثين الفلسطينيين أنّ «كل الوثائق والمستندات اللازمة لإبطال الصفقة، كانت في حوزة البطريركية، التي امتنعت لفترة طويلة عن استخدامها».
صفقة الـ2017، تضمّنت بيع 500 دونم إلى بلدية القدس المحتلة، وبيعت الأملاك مقابل قرابة الـ8 ملايين دولار. وبحسب المجلس المركزي الأرثوذكسي، بلغ عدد صفقات البيع والتسريب في القدس، في عهد ثيوفيلوس الثالث، 18 صفقة. علماً أنّه جرى التسويق لانتخاب البطريرك عام 2005، كمسحٍ «لجريمة» سلفه إيرنيوس، فيما يُعرف بـ«صفقة باب الخليل» (تشمل بيع فندقَي البتراء والإمبيريال الواقَعين في ساحة عمر بن الخطاب في باب الخليل بالقدس المحتلة، وعقارات أخرى داخل البلدة القديمة)، قبل أن تكشف وثيقة «أُسس الاتفاق مع بطريركية الروم الأرثوذكس» - 2007، أنّ «إسرائيل» رفضت الاعتراف بثيوفيولس الثالث إلا بعد التزام البطريركية «بيع أملاك الكنيسة لإسرائيل فقط، وضمان بقاء عقارات في أيدي الدولة العبرية». ويتحدث الباحث الفلسطيني عن معلومات أنّ «البطريرك قد يتفق مع الاسرائيليين على إعادة فندقَي البتراء والإمبيريال، مقابل التخلّي عن عقارات في أماكن أخرى، وسيتمكن حينها من استثمار الأمر والإيحاء بأنّه أعاد أملاك الوقف الأرثوذكسي».
يدفع هذا الواقع، رجل الدين من «المقدسية» إلى القول بأنّه «نُعاني في البطريركية من أزمة عميقة، مُمتدة منذ عام 1948، يوم كنا أغنى كنيسة وأصبحنا أفقرها. هو تواطؤ، مباشر أو غير مباشر، من قبل البطاركة اليونانيين مع المشروع الصهيوني». الأخطر في كلام رجل الدين، اعتباره أنّه «انتقلنا من مرحلة تصفية العقارات إلى تصفية الوجود المسيحي في القدس. والقصة لا تنحصر في الكنيسة الأرثوذكسية، فتحت وطأة الأزمة المالية، هناك حديث عن نية الكنيسة الكاثوليكية بيع مئات الدونمات في القدس المحتلة، للعدو». يقود هذا الكلام إلى إعادة طرح مطلب تعريب البطريركية المقدسية. يُصرّ الباحث الفلسطيني على أنّه «من حقّنا أن ننفصل عن اليونان، التي تبيع الأملاك مُستندةً إلى دستور أملاك القبر المقدس، التي تتبع للأمة اليونانية وليس للكنيسة». ولكن، في كلّ مرّة كان يُطرح التعريب «كنا نواجه بالرفض، ولم نلقَ دعم «أنطاكية». نحن بحاجة إلى غطاء سياسي لم نحصل عليه لا من السلطة الفلسطينية ولا من الأردن. التعريب بحاجة إلى قيادة وطنية».


أملاك البطريركية
بحسب سجلات الكنيسة، تمتلك البطريركية الأرثوذكسية نحو 18% من مساحة غربي القدس و17% من مساحة القسم الشرقي من المدينة. كما تمتلك أراضيَ وأديرة ومقابر خارج البلدة القديمة في القدس، وعقارات في مدن فلسطينية كبرى. القسم الأكبر من الأملاك، أصبح «ملكاً إسرائيلياً» سواء أكان عبر البيع أم إيجارات لمدة 99 سنة. أبرز المؤسسات الإسرائيلية، كمبنى الكنيست، ديوان الرئاسة، مسكن رئيس الحكومة والحاخامية الرئيسية… أقيمت على أرض تملكها الكنيسة التي تأسّست في القدس عام 52 بعد الميلاد. وبموجب قانون «بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية»، يُشرف الأردن على إدارة المقدّسات المسيحية في القدس الشرقية.