في غمرة الانتفاضة، اشتدت حماسة أعضاء المجلس النيابي لإقرار مجموعة من القوانين التي تلبّي مطالب «الثورة». قوانين لا تحتمل الانتظار، قال هؤلاء، لناحية أنها تعرّي الفاسدين المسؤولين عن الوصول إلى حافة الانهيار. ومن بينها، قانون مكافحة الفساد وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وقانون إنشاء المحكمة الخاصة بالجرائم المالية. لشدّة الحماسة لإقرارهما، حدّد رئيس المجلس النيابي جلسة أولى استثنائية، بعد ثلاثين يوماً من الانتفاضة. لكنها طارت قبل حدوثها، ثم جلسة ثانية لم يكتمل نصابها. الإصرار على إقرار تلك القوانين لا يزال قائماً، بدليل الجلسات الاستثنائية التي تجريها اللجان النيابية المشتركة.لكنْ، مقابل هذه الحماسة الفائقة، ثمة خوف من أن يؤول مصيرها إلى ما آل إليه سواها: انتظار المراسيم التطبيقية… التي لا تأتي أبداً. والخوف، هنا، نابع من «دستة» القوانين المقرّة، والتي لا تزال تنتظر المراسيم التطبيقية كي تصبح واقعاً. بالأرقام، هي نحو 52 قانوناً يحتاج تطبيقها إلى مراسيم تتقاعس السلطة التنفيذية والوزراء المعنيون عن تنفيذها، بحسب آخر جردة ما قبل «الهبّة التشرينية».
52 قانوناً، بعضها «معتّق»، مرّ عليه زمن طويل بلا مراسيم و«عاصر» أكثر من عهدٍ حكومي ولا يزال في انتظار المراسيم التي تعطيه صفة «النافذ». وهو زمن بدأ عام 2000 ولا يزال مستمراً، والأمثلة كثيرة، منها قانون 220/2000 المتعلق بحقوق الأشخاص المعوّقين والصادر عام 2000، وقانون وسيط الجمهورية الصادر عام 2003، وثالث صدر في العام 2002 يتعلق بتنظيم قطاع الكهرباء، ورابع صدر في العام 2005 يتعلق بسلامة الطيران المدني، وغيرها كثير في أعوام 2008 و2009 و2010 و2011، و«الحبل ع الجرار».
لجنة متابعة تنفيذ القوانين التي تشكّلت عام 2014 تمكنت من «أرشفة» 45 قانوناً غير نافذة حتى أواخر شباط الماضي. غير أن الجردة لم تكتمل، فقد أضاف رئيس اللجنة، النائب ياسين جابر، إليها سبعة قوانين أخرى لتصبح الحصيلة حتى أواخر أيلول الماضي 52 قانوناً.
عندما بدأت اللجنة عملها في عام 2014، كان عدد القوانين التي بلا مراسيم 30 قانوناً. عاماً بعد آخر، صارت اللائحة تكبر، حتى صارت الإضافات تحصل تلقائياً، إلى أن وصلت إلى هذا الرقم المرشّح إلى الزيادة.
اليوم، هناك محاولات لإقرار قوانين جديدة، من دون أن يعني ذلك أنها ستصبح نافذة. وهذه «عادة» باتت مألوفة في عمل المجلس الذي لا تكاد تمرّ جلسة من جلساته من دون أن يخرج من يهلّل من المشرعين بتحوّل الاقتراحات إلى قوانين. في المبدأ، قد يؤشّر ذلك إلى «عافية» النظام التشريعي. لكن، هذا جزء من السيرة غير المكتملة لمسار بلد اشتُهٍر بتسمية «بلد التشريع». فعلى الضفّة الأخرى من جلسات الهيئة العامة التي تخرج منها القوانين مصادقة، ثمة جانب آخر من الحكاية لا يُروى، والمتعلّق بالتطبيق. فصدور القوانين لا يعني أنها باتت نافذة، إذ يعوزها صدور مراسيمها التطبيقية عن مجلس الوزراء - كهيئة تنفيذية - لتخرج من قائمة «الحبر على الورق»، وإلا تبقى تلك الإنجازات وكأنها إنجازات فردية لمن تقدّم بالاقتراح يصحّ أن يضعه في… سيرته الذاتية!
كما أن هناك جانباً آخر لا يقلّ أهمية عن ضرورة تطبيق القوانين، وهو المتعلق باستكمال السلطة التشريعية مهامّها المتمثّلة بمتابعة التشريعات من خلال دورها الرقابي الذي ينص عليه الدستور والقوانين، والذي يكاد يكون معدوماً على أرض الواقع. ففي وقت حدد النظام الداخلي للمجلس النيابي (المواد 124 إلى 143) الأدوات الموضوعة بتصرف النواب في مجال الرقابة البرلمانية «وهي الأسئلة والاستجوابات والتحقيق البرلماني (…) كما حقّ النواب في مساءلة الحكومة اثناء جلسات المناقشة العامة وأثناء اجتماعات اللجان النيابية (...)»، لا يزال استخدام «هذه الوسائل الرقابية - إن حدث - من قبل أعضاء البرلمان كنوع من الدعاية داخل المجلس وعبر وسائل الإعلام، كي يظهر النواب وكأنهم المدافعون الوحيدون عن الوطن»، على ما يقول أحد المشرّعين.
المشكلة في تشريع القوانين ليست في «التخمة» التي يسميها المشرّعون «إنجازات»، وإنما في الشق المتعلّق بالتطبيق. في «الفصام» الذي تعيشه الدولة في مؤسساتها، فمن ناحية، هي تشرّع، ولكنها من الناحية الأخرى تسعى جاهدة لإجهاض ما شرّعته وكأنه لم يكن!

أسباب الحجر على المراسيم
مطلع العام الماضي، حدّد رئيس المجلس النيابي، إحدى أهم الإشارات الإيجابية حول جدية أي عمل حكومي، وتكمن في مكانٍ واحد: «الإسراع في تطبيق القوانين». أما العبرة من هذا الإسراع، فهو «أن تطبيق القوانين سيقضي على القسم الأكبر من الفساد ويردع كل من تسوّل له نفسه الإقدام على هذا العمل». إذاً، العبرة تكمن هنا. في الجملة الأخيرة، وهي التي تحول أصلاً دون تطبيق القوانين، على ما يؤكد جابر. من هنا، ينطلق جابر للحديث عما يحول دون صدور المراسيم التطبيقية للقوانين المكدّسة. ثمة أسباب كثيرة، ولكن يحلو لجابر، كما لغيره من المتابعين لحال تلك القوانين، حصر تلك الأسباب في عاملين أساسيين، أولهما تقني وثانيهما سياسي، وإن كان يترك حيّزاً لـ«حسن النية»، وخصوصاً في ما يتعلق بالقوانين الصادرة حديثاً والتي يعوزها بعض الوقت. ما دون ذلك، فثمة سوء نية في التعاطي مع القوانين. وفي هذا المكان بالذات، يلاقيه النائب قاسم هاشم الذي قال في معرض تعليقه على عدم صدور مراسيم قانون حق الوصول إلى المعلومات التطبيقي أنه «إذا أحسنا الظن فنقول تقصيراً وإذا ذهبنا أبعد من ذلك فنقول إن هناك نوايا خبيثة».
في الجزء المتعلق بالسبب التقني، يشير جابر إلى أن «بعض الوزارات لا تمتلك خبرات تقنية لكتابة المراسيم»،. غير أنه يبقى جزءاً ضئيلاً، وقد عملت اللجنة على حلّه من خلال «الاستعانة بخبراء لمساعدة الوزارات في كتابة المراسيم». أما في الشق الآخر، فهناك «قرار سياسي بعدم تطبيق القوانين». هذا بيت القصيد الذي يعطّل غالبية القوانين. بعد خمس سنوات من عمل اللجنة، يستكشف المتابعون أن «هناك تمنّعاً من قبل عدد من الوزراء في ما يخص تطبيق القوانين، ولذلك يعملون على تعطيلها بطرق مختلفة، من خلال امتناعهم عن إصدار المراسيم نظراً إلى أن القوانين لا تعجبهم». ولئن كانت بعض القوانين معطّلة لأنها لا «تسير حكماً إلا بإصدار مراسيمها التطبيقية»، فإن هناك قوانين أخرى «جرى ربطها بذلك الإصدار، علماً أنها تحتاج فقط إلى تعيين بعض الهيئات على أن تقوم الأخيرة بصوغ المراسيم، أي أن التعيين يسبق المراسيم»، على ما يقول النائب السابق غسان مخيبر. ويمكن ذكر قانون حق الوصول إلى المعلومات كمثال هنا. مخيبر الذي كان «عرّاب» الكثير من القوانين المعلّقة اليوم، يتحدث عن جانب «خبث»، مستغرباً في الوقت نفسه سبب ربط جلّ القوانين بالمراسيم.
ما يقوله مخيبر يعيد تلاوته المحامي بول مرقص، رئيس منظمة «جوستيسيا للإنماء وحقوق الإنسان». لا يجد الأخير تعبيراً لما يحصل سوى أن هناك من جهة «عسر هضم تشريعي» لكثرة القوانين المصادق عليها وتعطيل للقوانين المقرّة من جهة أخرى «بقوة السياسة». مع ذلك، لا يفترض، بحسب مرقص، أن يعلّق العمل بالقوانين المقرّة بسبب المراسيم، فثمة أشياء بديهية يمكن تطبيقها في انتظار صدور المراسيم. يمكن هنا ذكر قانون الأشخاص المعوّقين. في هذه الحالة، لا يُفهم مثلاً ما الذي يمنع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من حرمان أصحاب العمل الذين لا يلتزمون بكوتا توظيف ذوي الاحتياجات من براءات الذمة للمؤسسة؟ لماذا التقاعس عن القيام بواجب قبل أن يكون منصوصاً بقانون؟
يكمن «الخبث» في ربط جلّ القوانين بالمراسيم التطبيقية


ما يحدث اليوم أن «كل وزير يريد أن يحصر بيده كل شيء، ما يشرّع الفساد». وإلا ما الذي يعنيه مثلاً تعطيل الكثير من القوانين التي لا تتطلب مراسيم وإنما هيئات ناظمة أو مجلس إدارات؟ ماذا يعني مثلاً تعطيل قانون إعادة هيكلة قطاع الكهرباء العالق منذ عام 2002 في مجلس الوزراء؟ من جملة ما يحتاج إليه هذا القانون تعيين مجلس إدارة «ولكن ثمة من لا يعجبه القانون ويريد أن يُخصي المجلس». ما يحصل في هذه القوانين «ليس صدفة»، يقول جابر، وإنما «تعمّد»، ويعطي مثالاً هنا عن «خطة الكهرباء التي وضعت عام 2011 والتي تعهد خلالها الكل بتعيين مجلس إدارة، وهو الذي لم يحصل حتى اليوم».
المشكلة تكمن في أن القوانين المعطّلة هي تلك التي ترتبط بما يُسمى سلة «الإصلاح البنيوي»، والتي تمس تالياً الجزء الخدماتي والأساسي في حياة الناس. ومنها مثلاً تأخير صدور مراسيم تطبيقية لقوانين مجالات حيوية مثل الكهرباء والمطار والاتصالات «بسبب الخلافات السياسية». هذا التمنّع الذي يقود إلى الخلاصة النهائية لمسار تعطيل 52 قانوناً، وهو أن «لا أحد يريد العمل على تطوير الإدارة، فعدم إصدار الأنظمة يدخل ضمن باب النية في عرقلة الإدارة وعدم تطويرها»، يقول الأستاذ الجامعي، الدكتور عصام إسماعيل. يختصر إسماعيل كل تلك القصة بعبارة واحدة، فما يحصل برأيه «لا هدف له سوى ضرب الإصلاح».



ما هو المرسوم التطبيقي؟
هو مجموعة من القرارات والتدابير التي تتخذها السلطة التنفيذية - مجلس الوزراء - لتنفيذ وتطبيق التشريعات العادية أي القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية. وبتعبير آخر، المرسوم التطبيقي - أو التنظيمي - هو عبارة عن القواعد التي تسنّها الحكومة لتفصيل التشريع العادي وتحديد مفهومه وتوضح تالياً كيفية تطبيقه. فالمشرّع يكتفي بسنّ القواعد القانونية في عموميتها وأحكامها الجوهرية، تاركاً للسلطة التنفيذية مهامّ تفصيل الجوانب التي يتوقف عليها تطبيق القانون.