يدخل الاعتصام المفتوح في تقاطع إيليا في صيدا شهره الثاني. متمدّدين على الجهات الأربع أو متقوقعين في حديقة، صمد ثوريو المدينة بوجه قمع قوى السلطة والأمن من جهة، وبوجه اليأس والتباين الحاد بينهم من جهة أخرى. ليس غريباً صمود إيليا واستقطابه للآلاف. ففي زمن الاستسلام، انتفضت صيدا منظّمة عشرات التظاهرات الشعبية المطلبية ضد أزمات الكهرباء والمياه والنفايات والغلاء. صمود الانتفاضة استمد وقوده من خزان التيار الوطني في بوابة الجنوب، ولا سيما رصيد الأمين العام للتنظيم الشعبي الناصري النائب أسامة سعد. كان كثير من الصيداويين يفاخرون بأن النائب الذي انتخبوه هو الوحيد الذي استقبلته ساحات الثورة واعتبرته واحداً منها. أمس، كعادته، جال بين رفاقه الفقراء ومتوسطي الحال في السوق التجاري والبلد القديم، متضامناً مع الذين يعانون من الأزمة الاقتصادية التي خبرتها المدينة منذ سنوات. لكن نائب الفقراء، الذي هرم من أجل هذه اللحظة الثورية الشعبية، لم يفلت من التشويش. مع ذلك، لا شيء يزحزح بوصلته. كما لا شيء يقنعه هذه الأيام بتقبل فكرة ترشيحه إلى رئاسة الوزراء.قبل بدء المقابلة معه، يشترط سعد ألا يتمحور الحديث حول شخصه؛ لا كنائب الشعب ولا كمرشح شعبي لرئاسة الحكومة. لا يقبل أبو معروف بتضييع الوقت على أوهام. تتكتم أوساطه على تمنّي بعض حلفائه أن يوافق على الترويج لترشيحه لرئاسة الحكومة بعد استقالة الرئيس سعد الحريري. كانت فكرة وأدَها أسامة سعد في مهدها. ليس تعفّفاً عن المناصب، إنما «الواقعية السياسية اللبنانية تجعلني مرشحاً مستحيلاً. لا أنا أقبل بها ولا هي تقبل بي في الأساس»، قال سعد. يستطرد قائلاً: «لم ولن أسعى إلى أي منصب بسبب رؤيتي الخاصة للأمور المرتبطة بمشروع سياسي وطني حقوقي شامل. ولأن القصة ليست أشخاصاً، فإني أبحث عمن يحمل معنا هذا المشروع الذي نناضل لأجله منذ عقود». هل يمكن إدخال ذلك المشروع إلى هذه المنظومة؟ «هذا المشروع لم يتمكن حتى الآن من تأسيس شرعية دستورية له تعبر عن شرعيته الشعبية. وعليه، انقسم البلد بين شرعيتين، دستورية تمسك بمفاصل الدولة وشرعية شعبية غير متمثلة».
يبدو أبو معروف بعيون مناصريه كالنقطة في بحر. يتمنون أن يأخذ ابن شهيد الصيادين والفقراء حقه. هذا في العواطف، أما في الواقع، فيقول سعد: «دعونا نركز على المشروع الذي أطرحه منذ سنوات: التحرر الوطني شرط متلازم للتحرر الإنساني والحقوقي والمطلبي». في الجزء الأول من مشروعه أي التحرر الوطني الذي يبدأ بدعم المقاومة ضد العدو الإسرائيلي وحلفائه في الخارج والداخل ولا ينتهي بالقضية الفلسطينية، يجد سعد حلفاء ورفاقاً كثيرين يجابهون معه في الميدان. أما عندما تنتقل المواجهة إلى التحرر المطلبي، فيغدو الرجل وحيداً. يتحاشى أن يسمي حلفاءه بالاسم، لكنه لا يفاجأ بتمسكهم بمقاربتهم للأزمة الداخلية التي لا تخلو من الاعتبارات الطائفية.
أزمة سعد ليست في بقائه وحيداً، بل في عجز الانتفاضة (كما يحرص على تسميتها) عن أن «تخلق وزناً سياسياً لها ورؤية وبرنامجاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً للتغيير الديموقراطي لا يبدأ بالفساد ولا ينتهي بالعلاقة مع سوريا». يدعو القوى السياسية الوطنية المعارضة إلى أن تتواصل مع المجموعات المعترضة من أجل تشكيل جبهة عريضة للمعارضة الوطنية الشعبية لفرض ميزان قوى جديد في لبنان يفتح مسارات للتغيير والانتقال بسلام. لكنه يقرّ بأن السلطة برغم تخبّطها بعد الانتفاضة، لا تزال ترفضها ولا تعترف بها. يحصر الحل للخروج من الأزمة: بـ«مرحلة انتقالية سلمية وآمنة تعالج مختلف الملفات لحفظ الوطن».
حلّ الأزمة بمرحلة انتقاليّة سلميّة وآمنة تعالج مختلف الملفّات لحفظ الوطن


يملك أبو معروف مشروعاً تغييرياً يسع الجميع من مختلف المناطق. لكنه يدرك بأن المطبات أكبر منه، ليس بين منطقة وأخرى فقط، بل بين حي وآخر. بينما يفاخر صيداويون بأن نائبهم الوحيد الذي لا يشمله عقاب «كلن يعني كلن»، لا يتوانى آخرون من أبناء إيليا، ولا سيما أولئك الآتين من أصول «مستقبلية»، بأن يهاجموه ويتهموه بالسعي لوراثة آل الحريري. فيما عاب بعضهم عليه صلاته التي لم تنقطع بحزب الله. احتار الرجل بأمر الثوريين الذين يجدون المقاومة ضد إسرائيل وأميركا نقيضاً لمحاربة الفساد. كما احتار بأمر السلطويين الذين اتهموه بقلّة الوفاء لحلفائه في الحكم عندما مارس قناعاته التي لم ينقطع عنها يوماً.
يرفض أبو معروف الشخصنة. له مزاج خاص في الزعل والرضى. الضغط الذي تعرض له دفعه إلى الاعتكاف ليستريح من «الطوشة». يوم ونصف يوم ليس أكثر دام اعتكافه. سريعاً، عاد ليستكمل مسيرة «خط معروف». برغم علمه المسبق بهجوم بعض ثوار إيليا عليه، لم يتردد في المشاركة باجتماع في منزل رئيس بلدية حارة صيدا سميح الزين مع ممثلين عن حزب الله وحركة أمل ليحمي ظهر الاعتصام. حاول قطع الطريق على شائعات عن نية شبان من الحارة الهجوم على الساحة، انعكاساً للاحتقان المذهبي «بين السنّة المعارضين والشيعة السلطويين». وعندما نسب له منع «بوسطة» الثورة من عبور جسر الأولي، نزل بنفسه ليفتح الطريق أمامها، برغم عدم حماسته لها. يتهرب من الرد عما تعرّض له. جلّ ما يعنيه استمرار التحركات الشعبية في صيدا والمناطق، في ظل قلق شديد على تدهور الوضع الأمني. يذكّر دوماً بأن المشروع الإصلاحي للحركة الوطنية انتهى بحرب أهلية عام 1975.