يؤكد المسار الذي بدأ مع طرح اسم المهندس سمير الخطيب مرشحاً لرئاسة الحكومة، أن حالة الانفصال التام بين السلطة السياسية والمنتفضين ومؤيديهم باتت أمراً واقعاً ولا لبس فيه، ويكاد الكلام عنه يصبح ممجوجاً. كل المؤشرات السياسية والتفاصيل المتعلقة به وبخلفيات طرح اسمه، وكل ما يدور حوله في اللقاءات السياسية، تشي بأنه لا يمكن ان تُجمع القوى السياسية على تسميته لألف سبب وسبب. لكن الوقائع السياسية في لبنان تدل دائماً على أن المؤشرات شيء والاتفاق السياسي الذي يهبط من فوق على القوى السياسية، في ربع الساعة الأخير، هو شيء آخر. محاسن هذا الاتفاق المبدئي أنه وضع جميع هذه القوى على المشرحة، لجهة إظهار واقعها السياسي بعد 17 تشرين الاول، في مقابل حقيقة الشارع.لا يمكن نكران شجاعة اللبنانيين الذين تظاهروا ولا يزالون منذ أقل من شهرين. للمرة الاولى يظهر اللبنانيون شجاعة في الكلام والتصرف والتظاهر، بعيداً عن أي تغطية سياسية لهم، كما حصل سابقاً في تظاهرات 14 آذار التي غطّتها الكنيسة المارونية ومرجعيات روحية ودول غربية وعربية، وكما حصل أيضاً في تظاهرات 8 آذار بكل الثقل السياسي الذي أعطي لها. من الطبيعي أن تحصل تجاوزات، وأن يتم ركوب موجة التظاهر من جانب سياسيين وغيرهم، وأن يجري الحديث عن تدخلات غربية وأميركية تحديداً في ما يجري على الارض. لكن القوى السياسية تدرك في المقابل أن المتظاهرين الحقيقيين ليسوا على تماس مع أيّ من التدخلات الاميركية، وأن واشنطن نفسها، وإن حاولت التدخل، فسرعان ما تتخلى عن دعمها، ما إن يلوح شبه اتفاق سياسي على حكومة جديدة، وستعلن حتماً نيّتها التعاون معها والترحيب بها. هذا يؤدي الى حقيقة تخطّي المتظاهرين الخط الوهمي الذي كان مرسوماً في عدم معارضة السلطة والاحزاب بتلاوينها كافة. هي شجاعة تترجم في النقاشات وفي التعبير، سواء على الارض أم بالشعارات لكسر المحظور، وفي الدخول الى المصارف والاعتصام أمامها، وفي تحويل ساحات كانت عصيّة على غير الحزبيين الى حضور شعبي يومي، في مواجهة مهاجميهم أو القوى الامنية. كذلك الامر في التضامن الشعبي المتفلت من أيّّ غوغائية أو حملات دعائية حيال أزمات معيشية. هذه نقطة مضيئة في مسار حركة لم تقتصر على الجيل الجديد، بل على جيل عايش الحرب، ولم تكن لديه أي شجاعة في الوقوف في وجه الميليشيات مع الاعتراف باختلاف الظروف. لعل هنا ميزة الإقدام على انتخاب نقيب المحامين ملحم خلف، في هذا التوقيت، خصوصاً بعد ما أنجزه بقيادته منذ سنوات ثورة بيضاء، تأخر الكثيرون في التلاقي معها والتعامل معها بالجدية نفسها التي تعاملوا فيها خلال الحرب وبعدها مع الاحزاب السياسية والعسكرية.
في المقابل، يبدو الاتفاق على تسوية حكومية وكأنه استعجال لضبط هذه الحركة التي «تمادت» في عرف بعض السياسيين، وإن تبدّل إيقاعها، لكنها توسعت لتشمل عشرات المناطق اللبنانية. وهذا في حدّ ذاته يرصد محلياً وخارجياً. لكنّ هذه المحاولة منتهية الصلاحية، لأنها مجرد نفخ الروح في تسوية رئاسية ميتة. محاسنها معطوفة على حركة الشارع، أنها كشفت كما طرق المعالجة منذ 17 تشرين الاول، ثغرات أساسية في أداء الاحزاب الرئيسية، وطريقة إخراجها للحل وانعكاس ذلك على الحلفاء أو الخصوم.
لا يمكن القفز فوق واقع حزب الله بصفته أول هذه الاحزاب وأكثرها قدرة على التأثير المباشر في مجريات الحدث. رغم معرفة واقع الحزب واعتراضه على كثير من الاخطاء التي حصلت، إلا أن الخلاصة الاخيرة هي أنه في مكان ما، حمى هذه الطبقة السياسية التي كان هو نفسه يعترض عليها وعلى أدائها وفسادها. بعيداً عن اتهامات خصومه له بأنه أنجز تسوية سريعة، تحسّباً لعدم تكرار سيناريو العراق ومراضاة لدور إيران في ساحات نفوذها، كان الحزب أكثر الذين تحدثوا عن محاربة الفساد، في منظومة عمرها سنوات طويلة لم يكن هو من ضمنها. وهو حوّل دوره في وزارة الصحة وملف الدواء الى سلاح في مواجهة مكامن الفساد في هذا القطاع. لكن تحدّيه الحقيقي هو أن يتمكن من التماهي مجدداً مع هذا الخطاب، إذا تشكلت الحكومة التي يريدها ولو لم تكن حكومة طرف واحد.
التيار الوطني الحر في المقابل انكشف كواقع شعبي، لأن قيادته تعرف تماماً وقائع ملموسة عن التحول في نظرة الرأي العام المسيحي واللبناني تجاهه. وهذا الامر يتعدى الشعارات أو الانتقادات الشعبية أو الحزبية من خصومه. هذا ليس قليلاً، ولو أن التيار لا يزال يحيط نفسه ببطانة من المطبلين والمنتفعين لمصالح متنوعة نتيجة وجوده في السلطة. ثمّة ما انكسر في الهالة الرئاسية والحزبية للتيار ووضعيته داخل مجتمعه، وفي النظرة المحلية والخارجية إليه، بصرف النظر عن استمراره عددياً في المجلس النيابي أو تمثيله الحكومي. وما فُقِد من الصعب استرداده في مسار المكابرة الحالية.
الطرف الثالث هو الرئيس سعد الحريري. ثمة سياسيون مصرّون على القول إن الحريري لا يزال يعقد تحت الطاولة تفاهماً سياسياً واقتصادياً ومالياً مع الوزير جبران باسيل، مهما كان رأي الرئيس ميشال عون به، ومهما حصل من تباعد سياسي علني، واتهامات متبادلة. لأن الحريري في هذه الازمة، الطرف الذي يريد أن يحول نفسه إلى ضحية في حين أنه يتساوى مع شركائه في منظومة الفساد. وهو يتلطّى خلف أكثر من ستار شعبي من خلال التظاهرات وقطع الطرق، وأكثر من ستار سياسي عبر تسليط الضوء على موضوع صلاحيات رئاسة الحكومة، وستار ديني من خلال دار الفتوى يمكّنه من تحييد نفسه والبقاء في الوقت ذاته مرجعية العقدة والحل معاَ. هذا يعني أن أي تسوية حكومية بتسميته أو تسمية من يؤيد تحافظ على تعويم دوره كمرجعية، ليلتقي بذلك مع الاطراف الآخرين الذين يستعجلون تسوية بأي ثمن، ولو لم ترضهم الشخصية المرشحة ولا تاريخها ولا حيثيتها، ولا كل ظروفها، بمن فيهم ،كما يقول سياسي، الرئيس عون بنفسه.
في مقابل هذه القوى الثلاث، ثمة أيضاً ثلاثة أطراف تفاوتت أدوراهم في نتائج هذه الازمة، الرئيس نبيه بري، الذي استهدف مراراً، وترسم علامة استفهام حول مدى رضاه عن تسوية لم يكن فيها وسيطاً أساسياً. ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الذي شارك بقوة في جانب من التحرك الشعبي، وقُصَّ بعض أجنحته في الاتفاق على رئيس جديد للحكومة. والقوات اللبنانية التي أخرجت نفسها مبكراً من الحلبة السياسية في إطارها العام، ما أعادها الى لعبة الثنائية المسيحية وانتظار استثمار خسارة التيار شعبياً لتحويلها زيادة في رصيدها الشعبي.