لم تكن إشارة النائب السابق وليد جنبلاط، قبل نحو أسبوعين، إلى أن «بعض السفراء الفاعلين وبعض وزراء الخارجية دخلوا على خطّ تشكيل الحكومة لزيادة التعقيد...»، سوى انعكاس آخر للاتهامات التي وجهها جيفري فيلتمان إلى روسيا بالتدخل في الشأن اللبناني. ولا يخرج كلام الثنائي فيلتمان - جنبلاط عن سياق الحرب الإعلامية الاستباقية التي بدأت تُخاض ضد دور روسي محتمل في لبنان، تفرضه حاجة البلد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، مع شعور جزء من اللبنانيين بضرورة «التوجّه شرقاً»، وانهيار النموذج الاقتصادي اللبناني - الغربي.بالطبع، فإن التطوّرات اللبنانية الأخيرة في صلب اهتمامات موسكو، التي باتت لاعباً مهمّاً على شاطئ المتوسّط مع دخول القوات الروسية إلى سوريا في أيلول 2015، ودعم الجيش السوري في الحرب على الإرهاب. لكن ذلك لا يعني أن روسيا، التي يفتح الأميركيون في وجهها المعارك، ساحة تلو ساحة من أوروبا الشرقية إلى فنزويلا، تخطّط لإخراج لبنان من فلك غربي إلى آخر شرقي، بل على العكس من ذلك، يحرص المسؤولون الروس المعنيون بالملفّ اللبناني على اختيار مواقفهم بعناية، مع فهم كامل لميزان القوى الدقيق في لبنان، ومدى التغلغل الأميركي في البلد الصغير، ومع حرصٍ على عدم إدخاله في تجاذب خطير، يضاف إلى واقعه الواقف على شفير انهيار اقتصادي كامل.
كلام السفير الروسي في بيروت ألكسندر زاسبيكين، قبل أسبوع من انطلاق الاحتجاجات، وإشارته إلى أن «الأميركيّين يهيّئون لفوضى في لبنان» (راجع «الأخبار»، عدد 9 تشرين الأول 2019)، أزعج الأميركيين وتوابعهم على الساحة اللبنانية. وعدا عن الاحتجاج الأميركي الرسمي الذي وُجّه إلى موسكو عبر السفير الروسي في واشنطن، حول كلام زاسبيكين، شنّ الأميركيون حملة تضليل إعلامية لتحريف كلامه، بهدف إظهار روسيا كطرفٍ معادٍ لمطالب المحتجّين اللبنانيين المحقّة، وتلفيق الروايات الخيالية حول تعاون روسي - إيراني لقمعهم.
وفيما استند زاسبيكين في كلامه إلى العقوبات الاقتصادية التي فرضها الأميركيون على لبنان، خصوصاً بعد استهداف بنك «الجمّال» ما ساهم بشكل مباشر في هزّ الأسواق المالية والقطاع المصرفي، يميّز الروس موقفهم بوضوح بين الدور الأميركي المحرّك لحدوث فوضى، وبين تراكم الأزمات الداخلية الاقتصادية والسياسية في لبنان وانخراط السلطة في الفساد والهدر، والتي انتفض اللبنانيون في وجهها في 17 تشرين الأول.
الأجهزة الروسية المختلفة، وعلى مدى السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل، لمست لمس اليد مساوئ الفساد المستشري في الإدارات، ووصل الأمر ببعض المسؤولين إلى وضع العراقيل وطلب الخوّات من مؤسسات الدولة الروسية لقاء تسهيل التعاون مع لبنان أو عرقلته. ولم يغفل الروس عن توزيع الحصص الذي بدأ الحديث عنه مسبقاً، لقرض المليار دولار الذي حاول الرئيس سعد الحريري الحصول عليه من موسكو تحت عنوان تسليح الجيش اللبناني، ثم عاد وعرقله.
ولعلّ المعاناة الأكبر للجانب الروسي، كانت مع القطاع المصرفي ومصرف لبنان اللذين مارسا في حقّ الشركات الروسية أقسى أنواع العقوبات، إلى حدّ يزيد عمّا يطلبه الأميركيون حتى، إذ تُمنع الشركات الروسية من فتح حسابات في لبنان بحجّة خضوعها للعقوبات الأميركية، في وقت تعمل فيه هذه الشركات في دول الخليج والأردن ومصر من دون عراقيل. فضلاً عن الذرائع التي يتمّ ابتداعها لمنع الروس والصينيين من افتتاح مصارف في لبنان، تُسهّل عمل الشركات الروسية والصينية الراغبة بالاستثمار في البلد والمشاركة في إعادة إعمار سوريا، ما حرم لبنان تدفقاً لأموال كان من الممكن أن تساهم في منع انهيار الليرة وتساعد القطاع المصرفي على مواجهة المزاجية والضغوط الأميركية، عدا عن منع الشركات اللبنانية من إجراء التحويلات المالية من روسيا وإليها. وللمفارقة، فإن وفداً من جمعية المصارف سارع مع بدء الأزمة واستقالة الحريري، إلى زيارة زاسبيكين لطلب دعم روسي للإسراع في تشكيل الحكومة!
ما يقود الموقف الروسي اليوم تجاه لبنان هو الخشية من حدوث فوضى عارمة في حال حدوث انهيار اقتصادي ومالي كامل، تعيد خلط الأوراق في الإقليم وتهدّد الاستقرار في الشرق والخليج وفي أوروبا، في ظلّ دورٍ روسي جديد فلسفته السعي للحوار بين القوى المتصارعة، لا سيّما في الأزمة بين الخليج وإيران. من هنا، ينصح الروس اللبنانيين بضرورة الإسراع في تشكيل حكومة قادرة على وقف الانهيار وإجراء إصلاحات عاجلة في النظام الاقتصادي ووقف الهدر وفرض سياسات عملية لمكافحة الفساد. وهنا أيضاً تكمن الخشية الروسية، التي ظهرت في كلام وزير الخارجية سيرغي لافروف، من مطالبات الحريري والأميركيين، بحكومة تكنوقراط. فروسيا تشجّع على حكومة اختصاصيين ووقف عقلية المحاصصة التي يتم التعامل بها مع ملفّ تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ سنوات طويلة، لكنّها تدرك أن التكنوقراط مطلب سياسي هدفه ليس إجراء الإصلاحات، إنّما إبعاد أخصام الأميركيين عن السلطة التنفيذية، وتحويل الحكومة إلى أداة سياسية في وجه حزب الله والرئيس ميشال عون، ومحاولة انتزاع تنازلات سياسية منهما عبر الضغوط الاقتصادية.
تلقّى عون رسائل دعم روسية عبر أكثر من قناة رسمية بين الطرفين


وعلى الرغم من محاولات الحريري تليين الموقف الروسي تجاه هذا المطلب، سمع مستشاره للشؤون الروسية جورج شعبان خلال زيارته لموسكو قبل أسبوعين، مواقف واضحة باعتبار تشكيل الحكومة مسألة داخلية، على أن تكون قادرة على تحقيق الإنجازات وتلبية مطالب الشارع، لكن مع رفض عزل أي فريق. وليس خافياً، أن الروس حافظوا دائماً، ولا يزالون، على علاقة جيّدة مع الحريري الابن، تعود إلى العلاقة بين الرئيس فلاديمير بوتين والحريري الأب، وللدور الذي لعبه سابقاً كرابط بين روسيا ودول الخليج. إلّا أن الاندفاعة الروسية خلال الأعوام الماضية والعلاقات الجديدة مع الخليج، وعلاقة الحريري المتردّية بالأمير محمد بن سلمان، أفقدت الحريري الابن جزءاً مهمّاً من هذا الدور. ورغم ذلك، لا يزال الروس يرحّبون بالحريري على رأس الحكومة اللبنانية المنتظرة، إلّا أن ذلك، وهنا يكمن التحوّل، لا يعني رفضهم تولّي آخر لرئاسة الحكومة. خلال الأيام الماضية، وصلت رسالة رسمية واضحة إلى الرئيس ميشال عون، عبر أكثر من قناة، تؤكد دعم موسكو الكامل لرئيس الجمهورية لتشكيل حكومة قادرة على وقف الانهيار وحفظ الاستقرار، واستعدادها لدعم هذه الحكومة بمعزلٍ عن هوية رئيسها. وبحسب المعلومات، فإن الجانب الروسي خلال الأيام الماضية، تولّى القيام باتصالات مع دول خليجية، وفرنسا للتأكيد على ضرورة منع انهيار لبنان.
ويبدو الانهيار المالي والاقتصادي، أسوأ السيناريوهات التي يعتقد الروس أن الأميركيين لا يمانعون الوصول إليها، لا بل يلمسون سعياً أميركياً واضحاً لوضع لبنان على سكّة التفجير. وما يُقلق الروس، هو المشهد الذي يمكن أن يُرسم للبنان بعد الانهيار، من سيطرة للطوائف على بقع جغرافية بقوّة الأمر الواقع، بما يسمح للأميركيين بإعادة مشروع تفتيت المنطقة إلى الواجهة، من البوّابة اللبنانية، مع تفجّر الأوضاع في العراق. ولا يُخفي مسؤولون روس متابعون للملفّ اللبناني بعض المعلومات التي تتجمّع لديهم، عن خطّة أميركية للتعامل مع ما بعد الانهيار، وفرض نفوذ كلّي لهم في المناطق المسيحية اللبنانية، انطلاقاً من أن الطرفين المسلّحين في جبل لبنان الشمالي، هما حزب القوات اللبنانية والجيش اللبناني، وكلاهما في الحسابات الروسية يدوران في الفلك الأميركي. فضلاً عن المعلومات عن نيّة الأميركيين توسيع قاعدة حامات العسكرية، لتستوعب عدداً أكبر من الجنود الأميركيين، والتي لا تبعد سوى عشرات الكيلومترات عن القاعدة الروسية في طرطوس، وما لذلك من تأثير على صراع أنابيب النفط والغاز على الشاطئ الشرقي للمتوسط. كذلك لا تغيب طرابلس عن الحسابات الروسية، حيث ترصد تفعيل بعض المجموعات الإرهابية التي كانت هادئة سابقاً في الشمال، وفي منطقة البقاع الأوسط، حيث يُعطي مشهد قطع طريق دمشق ـــ بيروت مؤشّراً سلبياً للعسكريين الروس عن المستقبل الذي يُرسم للبقاع والشمال في المرحلة المقبلة.