كلما سئل حاكم مصرف لبنان عن الكابيتال كونترول، يقول جازماً: لن يكون هنالك أي تقييد لحركة الأموال أو السحب. لكن ما يجري مختلف تماماً عما يقوله. يعرف رياض سلامة أن المصارف تحتجز، حرفياً، أموال اللبنانيين، لكنه لا يكترث. يريد أن يصدق الجميع ما يقوله لا ما يحصل فعلاً. حتى عندما قررت جمعية المصارف، «بالتعاون مع مصرف لبنان»، فرض مجموعة من الإجراءات التي تعتبر أقسى أنواع الكابيتال كونترول، لم يغيّر من خطابه!كيف يوائم سلامة بين ما يقوله وبين ما يفعله القطاع الذي يفترض أنه «يديره»؟ لا تفسير لذلك، إلا بكونه تخلى عن دوره في إدارة القطاع المصرفي، أو انقلب عليه أصحاب المصارف، على قاعدة «عليّ وعلى أعدائي». بالنتيجة، صار أصحاب المصارف أصحاب السيادة. يقررون مصير أموال المودعين والاقتصاد أيضاً، فيما السياسيون والمسؤولون ومصرف لبنان يطلبون ويقترحون، لكنهم لا يفرضون. على العكس من ذلك، يلبّي سلامة طلبات أصحاب المصارف، ليمنحهم تغطية للإجراءات غير القانونية التي يتخذونها بحق الموعدين. وفي ما يلي عيّنة من تلك الإجراءات:

أريد راتبي
إذا كان «كابيتال كونترول» ينفّذ على الودائع، فما علاقة الرواتب؟ يتبيّن أن معظم الموظفين الذين يقبضون رواتبهم عبر المصارف، لم يتمكنوا من سحبها. حتى من يقبضون بالليرة اللبنانية يعانون المشكلة نفسها. عملية السحب من الصراف الآلي متعثرة. وعند السؤال، تبدأ الاحتمالات التي تأخذ منحى الأحاجي أكثر. ربما تخطّيت حدود السحب المتاح. لكنني لم أسحب بعد. إذاً ربما تخطّيت الحد الأقصى المتاح أسبوعياً. لم أسحب سوى 60 ألف ليرة هذا الأسبوع. آه، حسناً لا بد أنك تخطّيت الحد الأقصى الشهري. يا أخي، لم أسحب سوى مليون ليرة. إذاً، من المؤكد أنك أجريت 30 عملية سحب في الشهر. بعد تعدادها، تبيّن أنها ليست سوى 17 عملية. حسناً لا أعرف. عليك مراجعة فرعك! بالنتيجة، لم تعد مصادرة الأموال محصورة بالودائع. حتى الرواتب، الموطّنة داخلياً، أو التي تحوّل من الخارج، صودرت أيضاً. لا تنكر مصادر مصرفية منع الموظفين من تقاضي رواتبهم كاملة حتى لو كانت بالليرة اللبنانية، لكنها توضح أن هذا الأمر «يسري على من يتقاضى أكثر من 3 ملايين شهرياً، إذ يسمح له بسحب مليوني ليرة أسبوعياً، أما الآخرون فيحصلون على رواتبهم كاملة»، مبررة ذلك «بعدم وجود سيولة كافية لدى المصارف، لذا فإن هذا الإجراء يهدف الى توزيع المبالغ المتوافرة على الزبائن كافة».

100 دولار سقف السحب!
من بين القرارات غير القانونية، التي اتخذتها المصارف، بحماية القوى الأمنية، كان تقييد حركة السحب بألف دولار أسبوعياً. حتى ذلك القرار لم يكن الالتزام به شاملاً. بعض البنوك خفض السقف إلى 100 دولار فقط، ويضاف ذلك إلى منع التحويلات إلى الخارج، بشكل شبه كلي.
وعندما يُسأل موظف المصرف عن سبب هذا التخفيض، تكون النتيجة التعميم يقول «حتى ألف دولار وليس ألف دولار». وتلك مسألة استنسابية لأقصى حدود، وساهمت في تجميد أعمال الناس والشركات. لكن اجتماع بعبدا، الذي عقد الأسبوع الماضي، وعد بمزيد من الانفراجات. وفي ظل الإصرار على قاعدة «لا كابيتال كونترول»، أعلن المجتمعون «الطلب إلى حاكم مصرف لبنان، بالتعاون مع جمعية المصارف، تيسير الحاجات اللازمة للمودعين ولا سيما منهم صغار المودعين، للمحافظة على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة الى التسهيلات اللازمة لتأمين ديمومة عمل القطاعات الإنتاجية». كل ذلك لم يحصل، يوم الاثنين، كانت المصارف تتشدد في إجراءاتها لا العكس. ومن كان «يتساهل» في دفع ألف دولار في الأسبوع، في حالات الضرورة، أنهى مرحلة الاستثناء. أحد المصارف الكبرى حسم أمره بتعميم داخلي: 300 دولار أسبوعياً لمن يملك في حسابه أقل من 100 ألف دولار، 600 دولار لمن يملك حتى 300 ألف دولار، و1000 دولار للحسابات ما فوق 300 ألف دولار. كذلك فإن مصرفاً آخر خفض السقف لبعض المودعين إلى 100 دولار. ما العمل إذاً؟ الدركي على الباب. لكن مع ذلك، فإن إثارة المشاكل، على ما تبيّن، لا تزال وسيلة فعالة، وكذلك التهديد بنشر الفيديوات من داخل المصارف. كما أن اللجوء إلى القضاء، عند الضرورة، يؤدي حكماً إلى تحصيل حقوق المودعين، لأن حجز ودائعهم هو مخالفة لا لبس فيها.


لا تحويلات إلا للمحظيّين
يعاني المودعون من عدم القدرة على تحويل الأموال إلى الخارج. العراقيل تأتي من كل حدب وصوب. وإذا كان المعيار الأول هو «تغطية النفقات الشخصية الملحة»، فإن الحجج تأتي على شاكلة: ليس لديك تاريخ في التحويلات. «لكنها السنة الجامعية الأولى لابني في الخارج». قد يكون محظوظاً إذا تمكن من تحويل بعض الأموال، لكنه في الغالب سيفشل. كذلك الأمر بالنسبة الى التجار. قلة هم من يستطيعون تحويل الأموال لاستيراد بعض البضائع، أو حتى المواد الأولية المستخدمة في الصناعة. أما النتيجة، ففقدان بعض السلع من السوق، وتوقّف مصانع عن العمل. لكنّ للمصرفيين رأياً آخر. يقول بعضهم إنه «يُمكن لتجار ممن كانت لديهم اعتمادات مفتوحة قبلَ الأزمة أن يحولوا ما يقارب 50 ألف دولار شهرياً لاستيراد بعض البضائع، وهذا الأمر ليسَ متاحاً للجميع»، لأن «المصارف باتت أخيراً تتعامل مع كل حالة على حدة، وفي أحيان كثيراً تعود طلبات المودعين الى الإدارة المالية لدراستها». ويقول هؤلاء إن «التحويلات الشخصية تحصل أحياناً بسقف 3 آلاف دولار شهرياً لبعض الزبائن ممن يرسلون إلى أولادهم في الخارج مساعدات تعليمية، لكن هذا الأمر يتمّ بعدَ تأمين أوراق ثبوتية للجهات التي تصل إليها الأموال».
ذلك لا يشمل المحظيين طبعاً. هؤلاء من مسؤولين ورجال أعمال لا يزالون قادرين على تحويل أموالهم أو سحبها، إن لم يهرّبوها بعد.

أرجوك أحتاج إلى ألف دولار
كانت المصارف تتفهّم أحياناً حاجة المودعين إلى الجزء اليسير من أموالهم. في الأسبوع المنصرم، دخل أحد الزبائن «مصرفَه»، طالباً ألف دولار لأنه مسافر. لم يقتنع موظف الصندوق، طلب تذكرة الطائرة ليتأكد. استغرب الزبون الطلب. تريد مني دليلاً لكي أتمكن من سحب 1000 دولار من حسابي الجاري؟ اعتذر الموظف. قال: نحن أنفسنا لم نكن نتوقع يوماً أن نطلب هكذا طلب. عندما اطلع على التذكرة وتأكد من أن الزبون مسافر في اليوم نفسه، لم يحسم أمره بإعطائه ما يريد. اتصل بمديرته. أوضح لها ظروف الزبون المسكين. أعلمها أنه شاهد التذكرة بنفسه. اقتنعت المديرة، لكنها دعته إلى نقده 700 دولار فقط.
الزبون نفسه، عاد إلى المصرف نفسه بعد أسبوع، حاملاً تذكرة سفر أخرى. لديه رحلة عمل، ولم يعد بإمكانه إلغاؤها. استبق الطلب. وأظهر تذكرته، لكن هذه المرة كان القرار حاسماً. لا استثناءات تحت أي ظرف.


بطاقة الائتمان... بدل أموالك
بعض الحلول المقدمة لمن يريد أن يسافر، هي: لماذا لا تصدر بطاقة ائتمان (كريديت كارد)؟ يمكنك عندها أن تستخدمها في الخارج، بحدود سحب تصل إلى ألف دولار. وهكذا يعتبر البنك أنه «وجدها»، لكن الحقيقة أنه يمتنع عن إعطاء المودع من أمواله، ويستبدل هذه الخطوة البديهية ببيعه أحد منتجاته. وهو باب يسمح بتحصيل أموال إضافية من المودعين، من خلال الفوائد العالية التي يمكن أن تترتب على البطاقة، في حال عدم دفع قيمة الائتمان كاملة. يحصل ذلك فيما بدأت المصارف تقييد استعمال بطاقات الائتمان في عمليات الدفع الإلكتروني. كل مصرف يضع القيود التي تناسبه، وما على الزبائن إلا تجربة حظهم. الأكيد أن سقف بطاقات الائتمان بالدولار صار محدوداً جداً. هذا ما تؤكده الرسائل التي وصلت إلى زبائن عدد من المصارف. وبالتالي، فإن من يود السفر إلى الخارج قد يكون مضطراً للتكيف مع واقع عدم قدرته على صرف أكثر من ألف دولار شهرياً (قد تتضمن سعر تذكرة السفر والغرف الفندقية، إذا ما نُفّذت عملية الشراء في الشهر نفسه). وسيكون محظوظاً لو حمل بيده 300 دولار.
بطاقات الائتمان بالليرة اللبنانية وضعها أصعب. لم تعد تصلح لشراء المنتجات أو التذاكر من الخارج، إنما فقط للشراء الداخلي. وحتى ذلك، صار مشروطاً بموافقة البائع على استعمالها. محطات وقود عديدة تعلن أنها لا تقبل بطاقات الائتمان وكذلك متاجر كثيرة. الكل بحاجة إلى الكاش، وخاصة في زمن «أي ليرة تدخل إلى المصرف مفقودة».

خفض الفائدة؟
أعلن الوزير منصور بطيش أنه طلب وآخرون من حاكم مصرف لبنان «تخفيض معدلات الفوائد بالليرة اللبنانية والدولار بحدود 50 بالمئة»، معتبراً أنها «خطوة مهمة لأنها تخفض العبء على الاقتصاد والدَّين العام». وبالفعل، يُتوقع أن لا يتأخر مصرف لبنان بهذه الإجراءات، لكن بشكل تدريجي، انطلاقاً من أن سبب رفع الفوائد قد زال. ففي السابق، كانت هذه الخطوة تؤدي إلى جذب الودائع الخارجية، ما يساهم في ضخ الدولارات وتقليص عجز ميزان المدفوعات وتلبية حاجات المصرف المركزي من الدولارات، لكن بما أنه لم يعد هنالك أي فرصة لجذب الودائع، فلم يعد أمام الدولة سوى هذا الحل، الذي يفترض أن يؤدي إلى تحفيز الاقتصاد وخفض تكلفة الاقتراض. إلا أن هذه الخطوة، بدأت تثير التساؤلات لدى المودعين. كيف سيُحتسب هذا التخفيض على حساباتهم، وما هو مقداره؟ حتى اليوم لا أجوبة واضحة. يؤكد مودعون، في هذا الصدد، أن الأمر سيّان، إن انخفضت الفائدة أو ارتفعت. في الأساس قلة من المودعين يهتمون حالياً لمعدل الفائدة التي يحصلون عليها. أولويتهم هي سحب ما أمكن من ودائعهم المصادرة خلافاً للقانون. أي أمر آخر في هذه الظروف غير مضمون. والأموال المودعة في البنوك ليست سوى أرقام على ورق.