لا تتخلى الولايات المتحدة عن «علاقاتها» بالمؤسسة العسكرية اللبنانية. قد تكون هذه واحدة من الثوابت التي تجمع عليها الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومن بينها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. جزء من هذه «العلاقات» هي المساعدات العسكرية التسليحية المشروطة، وذات الأهداف التي لا يخفيها الاميركيون: مواجهة حزب الله، وإن لاحقاً.بعيداً عن واقع الجيش اللبناني وموقفه من الإرادة الاميركية، فإن واشنطن تسعى بشكل متواصل لإعداد العدة والميدان والظروف الموضوعية والعمل الدؤوب لتحقيق ما أمكن من «تابعية» في لبنان، تمهيداً لاستغلال متغيرات في الساحة اللبنانية والاقليم تتيح المواجهة وفرض الإرادة الأميركية كاملة على لبنان.
على ذلك، الحديث الإسرائيلي المتواصل عن خلافات بين تل أبيب وواشنطن إزاء «المساعدات» الأميركية للجيش اللبناني، وعن تجاذب داخل الإدارة وصولاً إلى تجميد مساعدة لوجستية هنا أو هناك، لا يغير من الاستراتيجيات الأميركية الموضوعة للجيش اللبناني والآمال المعقودة عليه، وذلك بعيداً عن مدى تجاوبه مع هذه الاستراتيجيات.
على ذلك، أيضاً، ينسحب التأكيد والنفي وما بينهما، بما يتعلق بإيقاف مساعدة لوجستية أميركية للجيش اللبناني، قيمتها 105 ملايين دولار، كان مسؤولان أميركيان أكداها عبر تسريبات للإعلام الأميركي بعد يومين من استقالة الرئيس سعد الحريري.
السجال الأميركي المعلن لا يبدو أنه مرتبط فقط بتجميد 105 ملايين دولار من المساعدات العينية الأمنية للجيش، بل ينسحب أيضاً إلى سجالات وتجاذبات معلن عنها تتعلق بأصل سياسة المساعدة واستعجال نتائجها. وهو سجال تشترك فيه دوائر ذات صلة بالإدارة الأميركية والكونغرس، كما اللوبيات المؤيدة لإسرائيل، بما يشمل الكتلة الإنجيلية الأكثر تأثيراً لدى إدارة ترامب، إضافة الى إسرائيل نفسها.
وكما هو واضح، تشترط إسرائيل في العلن، لمواصلة الدعم، أن يبعد الجيش اللبناني نفسه عن حزب الله، وإن تعمل الدولة اللبنانية ضد سلاحه النوعي، وتحديداً ما تسميه تل أبيب «مشروع الدقة»، الذي يعني وجود «مصانع» تابعة لحزب الله على الأراضي اللبنانية لتطوير صواريخ دقيقة وإنتاجها.
وممّا يرد في الإعلام العبري، هذه الشروط بدأت تتفاعل في الخارج، إذ تركز تل أبيب عليها لدى عواصم القرار. وفي ذلك، أشارت صحيفة «هآرتس» أمس إلى أن مجلس النواب الأميركي يناقش ملف المساعدات للجيش اللبناني في سياق دراسة اقتراح قانون يسمى «مكافحة حزب الله في التشريع (القانون) العسكري الخاص بلبنان» Countering Hizballah in Lebanon’s Military Act، وهو الاقتراح الذي يرد فيه إلزام الإدارة بتقديم تقرير إلى الكونغرس يتناول علاقات الجيش اللبناني بحزب الله، مع التركيز على عناصر وضباط فيه «من حزب الله». وإن أظهر التقرير فشل الحكومة اللبنانية في تقليص نفوذ حزب الله داخل الجيش، فستلغى 20 في المئة من المساعدات الأميركية المخصصة للبنان.
مجلس النواب الأميركي يناقش ملف المساعدات للجيش في سياق اقتراح قانون «مكافحة حزب الله»


في مقابل ذلك، ورد في «هآرتس» أمس أن مشرّعَين ديموقراطيين يطلبان أن تشرح الإدارة سبب حجبها المساعدات عن الجيش اللبناني. رئيس لجنة الشؤون الخارجية النائب إليوت إنغل (نيويورك)، والنائب تيد ديوتش (فلوريدا) الذي يرأس لجنة فرعية معنية بالشرق الأوسط وصفا القرار بأنه «غير مبرر». وأضاف النائبان المؤيدان لإسرائيل أن المساعدة ضرورية لتمكين الحكومة اللبنانية من المحافظة على الأمن والاستقرار، بما في ذلك محاربة الإرهاب وأمن الحدود وتنفيذ القرار الأممي 1701.
إلى ذلك، أكد مساعد وزير شؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر، خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، أن لا حجب للمساعدة، بل هي تمرّ فقط بمسار دراسة ومراجعة، لافتاً إلى أن قطع المساعدات من شأنه أن يدفع الجيش إلى حزب الله وإيران.
في السياق، تبدو المساعدة الأميركية للجيش أيضاً موضع أخذ ورد، بما يرتبط بالتحقيق في مجلس النواب الهادف إلى محاكمة ترامب وعزله، وهي واحدة من استراتيجية الدفاع لدى الإدارة، على خلفية ما تقول إنها سياسة متبعة في اشتراط المساعدات العسكرية وحجبها، وهي لم تقتصر فقط على كييف، بل تنسحب أيضاً على لبنان. وهذا التوجه يعقّد المسألة أكثر من ناحية لبنان، ويضفي ضبابية على أهداف الإدارة من الإجراء، وإن كان واضحاً في إطاره العام: المساعدات من أجل فرض الإرادة على لبنان.
تشير «هآرتس» إلى أن وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل لفت، خلال مثوله أمام مجلس النواب للشهادة حول الفضيحة الأوكرانية لترامب، أن موضوع الضغط عبر المساعدات حاصل أيضاً تجاه لبنان، وإن تجميد المساعدة للجيش هو نتيجة لـ«نزاع حول فعالية المساعدات داخل الإدارة».
مع ذلك، نقلت الصحيفة عن مصدرين مقرّبين من الإدارة طلبا عدم الكشف عن هويتيهما، بسبب حساسية الموضوع، أن البيت الأبيض قرر حجب المساعدة فيما يعمل البنتاغون والخارجية على تجميد القرار والإفراج عن الأموال، و«البنتاغون قلق من أن يتسبّب قطع المساعدة في زيادة عدم الاستقرار في لبنان وتعزيز (نفوذ) حزب الله وإيران».
في السياق نفسه، أشارت منظمة «مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل»، وهي الأكثر حضوراً بين الإنجيليين المؤيدين للدولة العبرية، في أحد بياناتها بداية العام الحالي، إلى أنه «بدلاً من استخدامها لمساعدة القوات المسلحة اللبنانية في تعزيز الحدود وحماية سيادة لبنان، كما تريد وزارة الخارجية، تستخدم المساعدات الأميركية لتسليح المنظمة الإرهابية ذاتها (حزب الله ) التي تهدد سيادة لبنان».
وقال مسؤول السياسة العامة والاستراتيجية في المنظمة، بوريس زيلبرمان، لـ«هآرتس»، إنه «مع تطور الوضع السياسي في لبنان، بما في ذلك المخاوف المتزايدة بشأن نفوذ حزب الله والأسئلة حول وضع المساعدة الأميركية للجيش اللبناني، على مجلس الشيوخ أن يبادر إلى جلسة استماع مع مسؤولي الإدارة للاستيضاح عن السياسة المتبعة إزاء هذه القضية». وأضاف: «يجب أن يصرّ الكونغرس على مراقبة المساعدات، كما عليه أن يصدر تشريعاً يشترط فيه عدم استخدامها ضد المصالح الأميركية».
هل إلغاء المساعدة العسكرية الأميركية للجيش اللبناني يأتي في سياق أو نتيجة دراسة استراتيحية واشنطن المفعلة من سنوات في لبنان؟ أم أن إلغاء المساعدة وإعلان السجال حول أصل المساعدات يخدمان الاستراتيجية نفسها؟ أم أن الحراك في لبنان، سواء كان عفوياً أو محرّكاً، أتاح الفرصة لواشنطن كي تدفع باستراتيجياتها، التي كانت تنتظر متغيّرات شبيهة بما حصل أخيراً في لبنان؟