تظن السلطة اللبنانية أنها تملك ترف الانتظار والمماطلة وغضّ الطرف عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي الكارثي، والذي أدى إلى انتفاضة شعبية غير مسبوقة. وهي لذلك، تفترض أنه يمكنها إعطاء الأولوية لصراع الحصص والمناصب، كما جرت العادة، تمهيداً لتشكيل حكومة على قياس هذا الفريق أو ذاك.أسبوعان مرّا على استقالة الرئيس سعد الحريري، والنقاش لا يزال في مكانه. تكنوقراط أم تكنو - سياسية؟ الحريري أم غيره؟ وإلى أن تظهر الأجوبة، فإن الاستشارات ستبقى مؤجّلة، وكذلك أي حل ممكن للأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة.
في الطريق، يحصل أن يسعى هذا المسؤول أو ذاك، إما لإبعاد شبح المسؤولية عن منافسه أو لإقناع الناس أن الأوضاع نحو الأفضل.
رئيس الجمهورية ميشال عون فضّل أمس أن يغزل على هذا المنوال. بشّر الناس أن «بدء التنقيب عن النفط والغاز سيُساعد على تحسّن الوضع تدريجياً». تلك عبارة، لا يمكن عزلها، بطبيعة الحال، عمّا يجري في الشارع. هي رسالة تدعو الناس إلى التفاؤل، ولكنها مع ذلك، فاجأت مطّلعين على ملف النفط والغاز، لما تشكّله من إقحام للقطاع في السياسة وملفاتها، من دون أي مبرر تقني لذلك.
للمناسبة، تلك ليست المرة الأولى التي يصار فيها إلى إقحام التنقيب المرتقب في السياسة. في موزانة 2019، أشير إلى عائدات النفط كأحد الضمانات المستقبلية. ورئيس الجمهورية نفسه سبق أن أشار في 31 تشرين الأول الماضي إلى أن لبنان سيدخل نادي الدول النفطية خلال شهرين. وزيرة الطاقة ندى بستاني قالت أيضاً إن «لبنان سيدخل قريباً الخارطة النفطية». وأكثر من ذلك، نزلت بنفسها إلى مرفأ بيروت، بمرافقة وفد إعلامي، لتفقّد مستوعبات المعدات المخصّصة لحفر البئر الاستكشافية للنفط، التي شحنتها «توتال» إلى مرفأ بيروت (المرفأ اعتمد قاعدة لوجستية لعمل الشركة).
في الوقت الذي ينتظر اللبنانيون أفعالاً حقيقية من السلطة، كانت الغاية من زيارة وزيرة الطاقة إلى مرفأ بيروت، في التاسع من الشهر الحالي، هي وضع حد للمشكّكين في قرب بدء عملية الاستكشاف. وهي لذلك، «افتتحت»، أمام عدسات الكاميرات، مستوعباً يضمّ معدات للحفر، هو ليس الأول الذي يصل إلى بيروت ولن يكون الأخير!
بحسب العاملين في القطاع، من السابق لأوانه الحديث عن وضع لبنان على الخارطة النفطية أو الإشارة إلى دخوله نادي الدول النفطية، إذ أنه «حتى حفر البئر الأولى لا يمكن أن يحوّل لبنان إلى بلد نفطي». الأمر المحسوم أن عملية الاستكشاف ستبدأ، وإن ستتأخر شهراً واحداً، على ما يُتوقع، أي من منتصف كانون الأول إلى منتصف كانون الثاني، بسبب تأخر باخرة الحفر في مصر حيث تعمل حالياً قبل انتقالها إلى لبنان. في السياق نفسه، نشرت بستاني، أول من أمس، فيديو لنشرة أخبار قناة «العربية»، يؤكد فيه الرئيس التنفيذي للشركة الفرنسية باتريك بويان أن حفر أول بئر استكشافية في لبنان سيتم بين كانون الأول وكانون الثاني مهما كانت الظروف.
إلى ذلك الحين، يبقى لتحالف «توتال - إيني - نوفاتيك» إنجاز المرحلة الأخيرة من التلزيمات المرتبطة بالاستكشاف. وبعد أغلب العقود المطلوبة، لم يبق سوى عقدين لم يُوقّعا بعد. الأول يتعلق بسفن التوريد (تنقل المعدات بين الشاطئ اللبناني ومركز الاستكشاف) والثاني يتعلّق بتأمين المازوت الخاص بالحفّارة. علماً أن التحالف أجرى المناقصتين المتعلقتين بالمسألتين، ولم يبق سوى توقيع العقود.
عدا ذلك، يؤكد مصدر مطلع أن كل التحضيرات أُنجزت، إن كان ما يتعلق بالأذونات أو المستندات المطلوبة، أو عملية التوظيف (تشمل العاملين على متن الحفّارة).
ما الغاية من الاستمرار في إطلاق دورة التراخيص الثانية في هذه الظروف؟


بعد انتهاء الاستكشاف، الذي يحتاج إلى 60 يوماً، تبدأ عملية تقييم البئر، فتنتقل الحفّارة إلى مكان آخر، غالباً ما يكون في المنطقة الجغرافية نفسها (قبرص أو مصر على سبيل المثال)، علماً أن التنقيب في البلوك رقم 9 سيتأخر بشكل ملحوظ، على ما تؤكد مصادر مطلعة. وإذا تبيّن وجود غاز بكميات تجارية، تبدأ عملية تطوير البئر، وهي عملية تحتاج إلى ما بين 3 و5 سنوات. أما في حال تبيّن خلو البئر من الكميات التجارية، فيتم الحفر في بقعة أخرى، ما يعني مزيداً من التأخير. ولذلك، سبق أن أشارت بستاني إلى أن «حفر أول بئر في البحر لا يعني إيجاد غاز أو نفط، معدّل الوصول إلى نتيجة هو حفر 3 آبار». ولذلك لا يمكن اليوم الحديث عن النفط بوصفه أحد الحلول الإنقاذية. يتخوف عاملون في القطاع من أن يستمر المسؤولون باللعب على هذا الوتر، لأنه يمكن أن يقود إلى ما يسمى «لعنة ما قبل الموارد النفطية»، التي تساهم غالباً في استرخاء السلطات عن أداء مَهامها بحجة اقتراب الفرج النفطي، فتكون النتيجة إبطاء الاقتصاد وتخفيض النمو وزيادة الإنفاق العام… ذلك قد يحصل في بلدان مستقرة، فكيف في بلد ينوء تحت أزمة اقتصادية لم يشهدها من قبل؟
أحد العاملين في القطاع يوجّه رجاءً إلى السياسيين، داعياً إلى ترك النفط بعيداً عن الأزمة السياسية والتجاذبات الحالية، فلا عائدات للقطاع قبل 5 سنوات.
لا يعتبر المصدر استمرار خطط الاستكشاف في ظل الظروف الحالية مستغرباً. لذلك هو يعتبر أن الأولوية اليوم هي لترك الشركات تعمل من دون ضغوط سياسية (تردد أن ضغوطاً مورست على «توتال» لاستعجال البدء بالتنقيب). وما يطمئن بحسب المصدر أن الظروف الحالية في لبنان، لا تؤثر على خطط التنقيب، إذ أن الشركات النفطية معتادة على العمل في بلدان تعيش حتى حالة حرب، أضف إلى أن التنقيب سيتم في البحر وليس على البر، ما يقلّل المخاطر.
لكن إذا كانت تلك الظروف لا تؤثر في عملية الاستخراج التي ستتم قريباً، فإن النقاش يتعلق بدورة التراخيص الثانية. هل توجد مصلحة في عدم تأجيل موعدها (الموعد النهائي لتقديم الطلبات هو 31 كانون الثاني 2020)؟ وهل تضمن الحكومة اللبنانية الحصول على عروض مناسبة في هذا الوقت؟