أين البيارتة؟ أسبوع مِن التظاهرات الكبرى في بيروت، في قلبها وأطرافها، والبيارتة ليسوا فيها. بين الجموع يوجد بيارتة، حتماً، لكن الغائب هم «البيارتة». أبناء العاصمة ككتلة، كلكنة، كصبغة، كجماعة، كأدبيّات ولمحات و«قفشات». أينهم مِن التظاهرات المطلبيّة؟ أين مدّ طريق الجديدة للجموع في ساحتي الشهداء ورياض الصلح؟ مِن البيارتة فقراء، مُتعبون، مقهورون، كما في كلّ المناطق وربّما أكثر... أينهم مع الذي فعلته بهم «الحريريّة»؟يجلس أبو خالد بيضون في منزله، قبالة الملعب البلدي، متابعاً ما يجري عبر التلفزيون. يضع سيجارته جانبه، ثم يقول: «البيروتي ما حدا حرّكه بالعمق إلا جمال عبد الناصر. شوف كمان البيروتي سئيل، لقلك كيف، ما بعرف بس التعامل معه صعب، من الآخر ما حدا بيفهم البيروتي إلا البيروتي». غيابهم، بأعداد كبيرة، عن التظاهرات «الوالعة» في وسط مدينتهم، يردّه إلى كون رئيس الحكومة سعد الحريري هو «بمثابة ورقة التوت الآن لنا، هل تُريدوننا أن ننزع ورقة التوت هذه خاصة بعدما باعتنا السعودية؟ شوف الحريري هو رئيس بدل عن ضائع، ضعيف، منعرف هالشي، بس ما بدنا ننذلّ أكثر». الرجل أخبرنا منذ البداية أنه سيكون صريحاً معنا إلى أبعد حدّ. يجزم أبو خالد أنّه بذلك ينقل لنا المزاج الشعبي في منطقته. يتحدّث عن حضور حزب الله في مخيال ابن بيروت، كجهة لا ينبغي لها أن تكون «فوق» في الساحة الداخليّة دائماً، وهذا تضخّم بعد 7 أيار الشهير. من هنا، برأيه، يُحجم ابن العاصمة عن المشاركة تظاهرات وسط بيروت، التي «لا يجد نفسه ممثلاً فيها، والتي يعلم أنّه مهما حصل سيبقى الجميع أقوياء ويكون الحريري هو الخاسر الوحيد». الرجل الذي عاش التبدلات التاريخيّة في المجتمع البيروتي، وانخرط في نشاطات سياسيّة سابقة، يُعبر عن احترامه للسيّد حسن نصر الله كمقاوم، أما كسياسي فشيء آخر. يقول: «نصرالله بنظري عم يغلط نفس غلطة أبو عمار، يعني إدخال المقاومة في السياسة المحليّة، رح يصعّب الفصل هون. صدّقني أسهل علينا نشوف الحريري مع نصرالله على أنّو نشوف نصرالله مع جبران باسيل. عم يتبنى التيار الوطني الحر والعهد كتير. هيدا باسيل ما ممكن يكون إلو مطرح عنا. رح يغدروا بنصرالله بعدين وبتشوف، طريق الجديدة مثلاً أقربله وأضمنله، وبتشبهه أكثر». هكذا، هذه هي بعض أسباب إحجام البيارتة عن المشاركة في التظاهرات المطلبيّة بحسب الرجل الستيني.
المحامي فؤاد مطر، البيروتي الناصري، يُقرّ بغياب جموع البيارتة عن الشارع هذه الأيام، إنّما له قراءة مختلفة نوعاً ما. يقول: «الهويّة البيروتيّة جرى تذويبها، هذا هو السبب، في الأربعينات كان عصب حياتها في سوق الخضر وسوق اللحم. كانوا سادة، تبدّلت المراحل، في الحرب الأهلية ظهرت في بيروت شخصيات غير بيروتية وتصدّرت المشهد واستمرت، قبل أن يظهر رفيق الحريري وتولد سوليدير. الحريريّة قلبت كيان البيروتي وغيّرت ثقافته ومفاهيمه، أصبح بلا قضية، أصبح يتعاطى الأرقام فقط، المقاولة باتت أسلوب حياة». يدعونا مطر إلى ملاحظة أنّ شباب بيروت لا يسكنون اليوم فيها، بل في بشامون وعرمون وغيرهما بعد شرّدهم الغلاء، يعني «بيروت لم تعد لأهلها، لذا لا تجد فيها اليوم سوى كبار السن. باتت مأوى للعجزة». يختصر المسألة بعبارة: «لحظة سوليدير كانت صدمة لوعي البيروتي الذي فقده ولم يعد بعد».
خلال الأيّام الماضية كانت الحياة في منطقة طريق الجديدة طبيعيّة إلى حد بعيد. طبعاً، نالها مِن جمود الحركة ما نال كلّ البلد، إلا أنّ النبض فيها لم يكن حاميّاً تأييداً للتظاهرات. أمس أيضاً كان كلّ شيء هناك يسير بشكل طبيعي. ليس تفصيلاً أنّ الحكومة التي يُطالب البعض بإسقاطها إنّما يرأسها سعد الحريري... زعيمهم، ولو كان مجرّد «ورقة توت». وسام شبارو، الجالس في دكانه والذي لا يتابع ما يجري حتى عبر التلفزيون، يجد حرجاً أن يعترف بغياب البيارتة عن التظاهرات، فيقول: «صحيح مش كتار، بس في منهم عم يشارك، خيي مثلاً بيشتغل بالإعلام وهياه هونيك هلق... إجمالاً ما حدا عارف شيء من شي». يغمز شبارو، مِن غير أن يُسمّي، مِن القوى (الحزبيّة والطائفيّة) الأخرى، التي «يبدو أنّ لديها غايات خاصّة مما يحصل. هناك تهديدات وسمعناها، لهيك يعني طبيعي ما يكون في كتير مشاركة من هون، هيدا رغم الفقر والمطالب يلي منتشارك فيها مع كلّ اللبنانيين».
الحريريّة قلبت كيان البيروتي وغيّرت ثقافته ومفاهيمه فأصبح بلا قضية!


لبيروت خصوصيّتها؟ طبيعي، كلّ مكان له خصوصيّته. أبو خالد بيضون لا يغيب عن باله أن يذّكرنا، مازحاً، بأنّ البيروتي «قفاه تقيلة. البيارتة يا ابني تاريخيّاً تجّار، ما بفوتوا بشي إلا ليكونوا ضامنيه. فطالما شي ضبابي ومش واضح ما بفوتوا». المحامي مطر، الذي عاش الحرب الأهليّة في مدينته، يلفت نظرنا إلى كون «أكثر من نصف الأهليّة حصلت في بيروت، لا تنسوا هذا، لقد استهلكتنا المليشيات ولا نزال ندفع الثمن. لم يعد هناك تثقيف سياسي في بيروت، تفشّت النفعية والمصلحية مع الحريرية. وبالمناسبة، هذا طال كل البيارتة، سنة وشيعة وأرثوذكس». هذه إشارة لافتة. المسألة هذه المرّة ليست طائفيّة على مستوى التظاهرات في لبنان، فأكثر البيارتة سُنّة، لكن ماذا عن طرابلس، السنيّة بأكثرها، والتي لم تهدأ فيها التظاهرات وبأعداد ربما تنافس أعداد وسط بيروت؟ كذلك صيدا، التي لم تهدأ أيضاً. المسألة هنا، في حالة بيروت، تقع في الخصوصيّة المناطقيّة وتحوّلاتها. شيء ما ألمّ بـ«البيارتة» خلال العقود الأخيرة، فغيّر فيها، لكنّها تبقى بيروت، ويبقى العالم الذي يتُابع اليوم مباشرة ما يجري في لبنان، ويقول: تلك بيروت.