كانت الرافعة تُنزل ببطء وروية جهازاً كبيراً في إحدى زوايا ساحة عبد الحميد كرامي (ساحة النور)، ما أثار فضول المحتشدين في الساحة لمعرفة ما يجري. «إنه جهاز لتقوية بث الإنترنت»، قال أحد الشبان وهو يساعد في إنزال الجهاز، ما دفع البعض إلى التعليق سريعاً: «الآن هل سيوقف وزير الاتصالات الإنترنت في كل لبنان!».يتّهم ناشطون في الساحة وزارة الاتصالات بأنها «أوقفت أكثر من 30 مجموعة (غروب) على الواتس آب لإسكات صوتنا»، يقول أحدهم. أضحى المكان قبلة الطرابلسيين والشماليين ونقطة استقطابهم بهدف «التعبير عن مواقفنا ضد السلطة الفاسدة»، يقول طارق وهو يشير إلى الساحة التي تجمع فيها حشد من الشبان أتوا من مختلف أحياء طرابلس ومناطق الشمال.
خلال اليومين الماضيين، خلت شوارع المدينة تقريباً من المارّة والسيارات، وأقفل أغلب المحال التجارية أبوابه، خصوصاً بعدما سدّ محتجّون بالحجارة والإطارات المشتعلة والخيم جميع مداخل طرابلس المؤدية إلى المناطق المجاورة، ما جعل وصول أبناء الجوار إلى المدينة مغامرة، وسط دعوات إلى فتح هذه المداخل بهدف تسهيل الوصول إلى المدينة، باستثناء ساحة كرامي (النور) التي لم يبق فيها ولا في الشوارع الستة المتفرعة منها موطئ قدم. فهي شهدت، الأحد الماضي، حشداً جماهيرياً اعتُبر الأضخم في تاريخ المدينة.
أين كان هؤلاء الناس؟ أين كانت أصواتهم في الانتخابات النيابية الماضية؟ لماذا لم يتمرّدوا من قبل؟ إلى أين سيصلون في حراكهم، وإلى أين سيذهبون بعد انتهاء التحرك؟ أسئلة كثيرة لا تجد أجوبة واضحة عنها، لكن ما يقوله البعض منهم في الساحة يعبّر عن تغيير طرأ على ميولهم السياسية، ويدل على أوجاع وهموم وقضايا مختلفة يعانون منها.
يوضح ربيع، الذي لا يخفي أنه كان مؤيداً لتيار المستقبل أنه «عندما كنت أنتقد الرئيس سعد الحريري، ولو من باب المزاح، أمام والدتي، كان البابوج يلحقني إلى مدخل البيت. أما اليوم، فإذا سألتها عنه تقول كلن يعني كلن».
استياء شريحة واسعة من تحوّلات الحريري في السياسة وفي الخدمات التي أوقف حنفيتها منذ قرابة عشر سنوات، ينسحب أيضاً على الرئيس نجيب ميقاتي الذي يلفت أكرم، الشاب الثلاثيني، إلى أن «أغلب من اعتصموا أمام قصره في الميناء كانوا ممّن يتلقّون منه مساعدات مختلفة، وكانوا يؤيدونه. لماذا تخلى عنهم، رغم أنهم كانوا يقبضون منه «خرجيّة» بسيطة لا تزيد أحياناً في الشهر على 200 ألف ليرة؟». سيل الانتقادات والشتائم التي توجّه، أغلبها من نصيب الوزير جبران باسيل، لأنه «استفزازيّ وعنصريّ»، يقول عماد معلقاً.
«عندما كنت أنتقد الحريري أمام والدتي، كان البابوج يلحقني إلى مدخل البيت»


الاعتصام الاحتجاجي في طرابلس، والذي بات جاذباً للمواطنين من مختلف المناطق للمشاركة فيه، بعدما تحول إلى مهرجان جماهيري دائم، وكذلك لوسائل الإعلام المحلية والعربية، ناقض الصورة النمطية السلبية عن المدينة. أثار ذلك استياء عدد من المشايخ الذين استنكروا ما يجري في الساحة من «تصرفات غير مقبولة»، بحسب وصف بعضهم، ما دفع كثيرين إلى الرد عليهم. يقول أحد شبان الساحة، علي، معلقاً: «هل كل ما حصل في البلاد من فساد وهدر للمال العام، ومن انهيار اقتصادي ومالي لم يستفزّهم، واستفزّتهم مظاهر اختلاط حضارية وسلمية تطالب بالعدالة الاجتماعية»، ما دفعه إلى أن يقترح عليهم «اذهبوا واعتصموا أمام دار الفتوى إذا كان لا يعجبكم اعتصامنا!». أضاف: «قسم كبير من المشاركين في الاعتصام يقيمون الصلوات جماعة في الساحة، لمَ لم نرَ أحداً من هؤلاء المشايخ يؤمّ المصلين هنا؟».
نيّة المحتجّين ببقائهم في الشارع حتى تتحقق مطالبهم، تبرز بوضوح في ردّهم السريع على قرار وزير التربية أكرم شهيب إعادة فتح الجامعات والمدارس اليوم. «سنقطع جميع الطرقات منذ الخامسة صباحاً، وخصوصاً الطرقات المؤدية إلى الجامعات والمدارس»، على حدّ قول مازن، الذي يضيف: «خلّي الوزير يبل القرار ويشرب مَيتو».
الأساتذة المتعاقدون بالساعة في الجامعة اللبنانية في الشمال أصدروا بياناً أعلنوا فيه «رفضهم قرار رئيس الجامعة الدكتور فؤاد أيوب استئناف العمل بشكل طبيعي في جميع الفروع»، لأن «هذا التعميم مستنكر»، بحسب بيانهم. غير أن الاستنكار في الشارع لقرار الوزير يأتي بشكل مضاعف: «نحن نصنع التاريخ والتغيير والثورة»، يقول خالد معلّقاً بحماسة، ويدعو الأساتذة «إلى أن يتظاهروا معنا بدل الذهاب إلى الجامعات والمدارس. أن تضيع سنة علينا أفضل من أن يضيع مستقبلنا أو يضيع عمرنا كله».