قبل أربع سنوات، وعلى خلفيّة التظاهرات التي كانت شرارتها تكدّس النفايات، حصل أن شعر الزعماء في لبنان بالقلق. في ذروة انفلات الشارع، آنذاك، سجّل لنا الأرشيف كلمة رهيبة لرئيس مجلس النوّاب، رئيس حركة أمل، نبيه برّي: «لولا الطائفيّة في هذا البلد لكان المُحتجّون سحبونا مِن بيوتنا». هنا كلّ الحكاية. ماذا عمّا يحصل اليوم؟ هل ثمّة فصل جديد يُضاف إلى حكاية الجماعة ــــ الجماعات اللبنانيّة؟ الجزم بذلك مجازفة. لكن أن يهتف مَن في طرابلس نصرة لمِن هم في الضاحية، وصور وغيرهما، وأن يتضامن هؤلاء مع مَن هم في طرابلس وغيرها، وتُصبح بيروت مصفاة لكلّ الاتجاهات... أن نشعر، ولو للحظة، بأنّ هناك شيئاً ما بات يتوحّد حوله ناس هذا البلد، فعلاً لا قولاً، فهذا مِن الملامح التي يصعب القفز فوقها. ضع نفسك مكان الزعيم اللبناني التقليدي، مِن أي طائفة كان، وحاول أن تتصوّر كيف يشعر الآن وهو ينظر إلى ساحات مليئة بالبشر، تهتف ضدّه، وهو هذه المرّة، وربّما لأوّل مرّة، ليس مَن دعا هذه الجموع لأن تحتشد. حتماً، يعزّ عليه ذلك، ولن يكون مُستهجَناً إن همس في سرّه قائلاً: «له له له، ولك شو عم يصير، كيف هيك؟». هناك بين زعمائنا مَن لا قدرة نفسيّة له أن يتخيّل، أصلاً، وجود حشود تتحرّك بغير إشارة مِنه أو مِن زعيم آخر زميل له. اليوم، وهذا مستجد، يكتشف زعماء لبنان شيئاً جديداً في «ناسهم». عوّدونا، مِن زمن بعيد، على استخدام مفردة «ناسنا». هذا جزء مِن ثقافتنا في هذه البلاد. شيء ما يهتزّ اليوم في هذه الثقافة. مِن السذاجة أن نبالغ في التفاؤل اليوم، لكن، وهذا ما يُمكن الجزم به إلى الآن... هناك أشياء ما تهتز. لو انتهت تظاهرات اليوم، التي فاجأت الجميع بلا استثناء، على تحقيق ذلك «الاهتزاز» فقط، لكان إنجازاً. الأهم أنّه إنجاز قابل للتراكم. أساساً ليس هناك، إلى الآن، مطالب مشخّصة موحّدة للمتظاهرين. ليس صعباً أن نلاحظ أنّهم إنّما يفعلون ذلك، في العمق، مِن أجل هزّ النظام. يهتفون ضدّ نمط حياتهم بالمجمل. ضدّ «الحالة اللي وصلنالها». الآن بات يتحدّث وليد جنبلاط عن «ضريبة تصاعديّة»؟ ولا يكتفي بذلك، إذ يطرح «إلغاء معاشات النوّاب والوزراء الحاليين والسابقين»! يا ربّاه. هالله هالله يا دنيا... لقد أصيبوا.
شهد السيد حسن نصر الله لهذه التظاهرات بأنّها غير محرَّكة مِن السفارات الأجنبيّة

عصر أمس، حضر إلى ساحة الشهداء، حيث الاحتجاج، عامل «دليفري» على درّاجته الناريّة. تبيّن أنّه، بعدما أوصل الطلبيّة إلى الزبون، قرّر أن يأتي ليهتف، ولو لخمس دقائق، ليشعر بأنّه شارك و«فعل شيئاً». حدّثنا هكذا بلسانه. يشعر بأنّ لديه ما يملكه في هذه الساحة، في هذا التجمهر. ينتمي إلى هنا. لم يطاوعه ضميره إلا أن يُشارك، ولو قليلاً، قبل أن يُكمل سعيه وراء لقمة عيشه. هذا نموذج مِن أصناف المتظاهرين. ذاك الشاب متزوّج ولديه طفلة صغيرة، يسكن بالإيجار، وهذا الشهر، تحديداً هذا الشهر، سوف يضطرّ إلى أن يستدين بعض المال ليدفع أجرة المنزل. هذا وهو يعمل، أي ليس عاطلاً مِن العمل. هذه طبقة يكون عملها، على ما فيه مِن شقاء، بمثابة البطالة. إيجار المنازل في لبنان غالية جدّاً جدّاً، قياساً بالدخل، هي بذلك مِن الأغلى في العالم. حتماً سمع ذاك الشاب كيف سُرِقت أموال الإسكان «المدعومة». كلّنا سمعنا.
شوارع بيروت، في اليوم الثالث على بدء التظاهرات، كانت أخف دخاناً أسود، وأقل طرقات مقفلة، إنّما الأعداد ازدادت. ثمّة بهجة منطلقة في الشوارع. طاقة إيجابيّة. بين ساحة رياض الصلح وساحة الشهداء، حيث الجموع، لوحظ أمس ظهور شعارات جديدة. كتابات إضافيّة على الجدران. الحساسيّة ضدّ كلّ ما يؤذي الاحتجاجات لا تزال مرتفعة. هذه ميزة تُسجل لهذه التظاهرات. يبدو الناس هنا، كما هم في سائر المحافظات الأخرى، وكأنّ ليس لهم مَن يحمي ظهرهم. حتّى صبغة «المجتمع المدني» لا تبدو هذه المرّة ظاهرة. وحده هتاف إحدى المتظاهرات، بواسطة مكبّر الصوت، جعل البعض يستهجن. كان هناك مَن يُردّد خلفها. سأل واحد هناك: أعرفها، لبنانيّة، لماذا تطلق الشعارات بلهجة سوريّة؟ مِن الواضح أنّ بعض المتظاهرين يرفضون كلّ شيء قديم، كلّ شيء مجرّب، كلّ الوجوه المستهلكة، بصرف النظر عن التوجّهات السياسيّة. على أحد ما أن ينصح أولئك، أصحاب تلك الوجوه، بأن يرحموا الناس المتعبين، بأن يرحموا التظاهر النقي إلى الآن، مِن أيّ سجال يُمكن أن يُثار حول شخوصهم. هذه المرّة، وبشهادة مِن السيّد حسن نصر الله، لا توجد سفارات أجنبيّة خلف المتظاهرين، ولا جهات سياسيّة حرّكتهم، بصرف النظر عن محاولات البعض لركوب الموجة. هذه المرّة، يبدو أن الناس وحدهم، تماماً، وهذا جيّد إلى الآن، ولكن إن طال أمدّ الغضب فالمسألة بحاجة إلى بحث. لا بدّ مِن تنسيق ما. لكن مَن يدري، لعلّها تكون إيجابيّة أيضاً، ولو دامت، طالما أنّها تُنجِز. هذا شيء جديد تماماً نعيشه في لبنان. شيء جديد نتعلّمه...