في الرابع والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوير، يكون المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله قد أتمّ عامه الخامس والثلاثين في المعتقلات الفرنسية. ككل عام في هذه المناسبة، يتواعد عدد من أصدقاء جورج ورفاقه، والمناضلين الحقوقيين، والمتضامنين مع القضيّة الفلسطينية، أمام سجن لانميزان الفرنسي، لتنظيم وقفة «ضد النسيان»، تضامناً مع رفيقنا الذي يعتبر اليوم أقدم سجين سياسي في العالم، فيما تأجّلت الوقفة الاحتجاجيّة التي كانت مقرّرة اليوم أمام السفارة الفرنسيّة في بيروت، بسبب تظاهرات الاحتجاج التي تضجّ بها شوارع العاصمة اللبنانية. وننشر في ما يلي المرافعة التي كتبها الصحافي والناشر اللبناني رينيه نبعة للمناسبة، بتكليف من جورج نفسه، لتتلى أمام «محكمة الرأي» (على طريقة برتران راسل خلال حرب فيتنام). وكان جورج عبد الله رفع أمام هذه المحكمة الرمزيّة دعوى ضد الممارسات الاعتباطية للسلطة الفرنسية، في قضيّة تزييف موصوف للعدالة.

لائحة اتهام المدعي العام رنيه نبعة المكلّف من قبل جورج إبراهيم عبدالله
سيدي الرئيس،
السادة الحضور،
إن الثقة التي منحني إياها جورج إبراهيم عبدالله تشرّفني وتلزمني.
إنها تلقي على كتفي مسؤولية كبيرة أمام التاريخ والعدالة الإنسانية، لأثبت أن قضية جورج إبراهيم عبدالله، التي كانت في البدء، باختصار كاريكاتوري، قضية قتل دبلوماسيين في فرنسا، ستؤدي بسبب تدخل السياسة في القضاء، إلى سلسلة من الأعطال لتنتهي إلى مسخرة قضائية، وهي ليست إلا مثالاً بيّناً على التنكّر لمفهوم العدالة بحد ذاته، ليمنح دولة اسمها إسرائيل هي وأتباعها الفرنسيين، حق الانتفاع من حصانة قانونية تامة.
1- قضية جورج إبراهيم عبدالله مثال بيّن على التنكّر لمفهوم العدالة بحد ذاته.
محاكمة غير نزيهة، تهمة غير مثبتة، شهادة زور، عدم الالتزام بالتعهدات، في سياق الدفاع عن النفس، لكل هذه الأسباب تستحق قضية جورج إبراهيم عبدا لله أن تُدرّس في مناهج مدرسة القضاة كمثل مضاد لحسن إدارة العدالة.
أ‌- محاكمة غير نزيهة
محامي دفاع لحساب جهاز المخابرات الفرنسية
كالدودة في الفاكهة، كان محامي الدفاع لجورج إبراهيم عبدالله Jean Paul Mazurier، ينفّذ مَهمة لحساب جهاز المخابرات الفرنسية.
لم تشهد سجلّات العدالة مثل هذه الحالة من العدالة ومع ذلك لم يؤدِّ ذلك إلى إلغاء المحاكمة.
في 28 شباط من عام 1987 حُكم على جورج إبراهيم عبدالله بالسجن المؤبّد بعد 70 دقيقة من المداولات في محكمة خاصة مؤلفة من 7 قضاة. بعد عدة أيام نشر واحد من محاميه وهو Jean Paul Mazurier، كتاباً يعلن فيه أنه عمل لحساب جهاز المخابرات الفرنسية. لكن المحاكمة لم تُلغَ. وها هي فرنسا « بلد حقوق الإنسان» لا تكترث بما تعتبره جزئيات.
ب‌- تهمة غير مثبتة.
سُجن جورج إبراهيم عبدالله وحوكم بناءً على براهين مزيّفة. مسدس ملفوف بجريدة عربية صدرت بعد سنتين من توقيفه.
والقاتل الفعلي هي ناشطة في الحزب الشيوعي اللبناني اسمها جاكلين اسبر بالاسم المستعار الرفيقة ريمة، توفيت بعد معاناة طويلة مع المرض في عام 2016في بيروت حيث كانت تعيش بشكل سرّي.
لقد حدث قتل الملحق العسكري الإسرائيلي في السفارة الإسرائيلية في باريس عام 1982 Yacov Barsimentov، وهو سبب اعتقال جورج إبراهيم عبدالله، ولم يُكشف عن هوية القاتل إلا بعد 34 عاماً من حادثة قتل هذا الدبلوماسي الإسرائيلي المزيّف في خضمّ الحملة الانتخابية الفرنسية.

(مروان طحطح)


وبالرغم من ذلك فقد وضع هذا الكشف السلطات الفرنسية في وضع حرج، لكن ذلك لم يؤدِّ إلى مراجعة المحاكمة في ما يخص السبب الرئيس في اعتقال هذا المناضل الشيوعي اللبناني.
ت‌- شهادة زور أو عدم الالتزام بالتعهّدات.
بغضّ النظر عن إدانة جورج إبراهيم عبدالله، فقد تعهّدت فرنسا بالإفراج عنه مقابل الإفراج عن الدبلوماسي الفرنسي في طرابلس Sydney Peyrolles الرهينة لدى الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية التي كانت قد تبنّت اغتيال الدبلوماسي الإسرائيلي.
أُفرج عن Sydney Peyrolles لكن جورج إبراهيم عبدالله بقي في المعتقل بسبب صدفة غريبة مثيرة للشكّ: اكتشاف أداة الجريمة، أي ذلك المسدس الملفوف في صحيفة عربية صادرة بحسب تاريخها بعد سنتين من توقيف المتهم، بالرغم من أن فرنسا كانت قد تعهّدت للجزائر بلسان Yves Bonnet الذي كان حينها مديراً لإدارة الأمن الداخلي DST.
■ لماذا لبناني مسيحي مؤيّد للقضية الفلسطينية؟
ليس النضال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني شأناً عربياً وإسلامياً فقط بل إنه شأن كل إنسان غيور على السلام والعدالة فوق كل اعتبارات مذهبية وعرقية.
كانت بيروت تُعتبر في السبعينيات رافداً للنضال القومي وآخر بقعة للمعارضة الفكرية العربية.
كما ستكون هذه العاصمة بين الاجتياحين الإسرائيليين عامي 1982 و2006 منبراً للكلمة والرأي لتعوّض عن الهزيمة التي مُنيت بها القومية العربية على أثر نكبة 1967.
ستصبح في ما بعد منصة ثورية لكل حركات التحرر في المنطقة، من الجيش السرّي لتحرير أرمينيا إلى أكراد الـ ب ك ك ومن ثمّ جبهة تحرير شبه الجزيرة العربية وظُفر، والجيش الأحمر الياباني و Rote Armée Fraktion وصولاً إلى سلسلة الحركات المقاتلة الفلسطينية.
■ المسيحيون في المقاومة الفلسطينية: جورج حبش، المطران هيلاريون كبوشي، كمال نصر، عطالله حنّا...
لعب المسيحيون العرب دوراً بارزاً في نشأة اليقظة الفكرية العربية وسيكونون الأساس في تكوين أكبر التشكيلات السياسية العربية المعاصرة: أنطون سعادة (الحزب السوري القومي)، ميشيل عفلق (حزب البعث)، جورج حبش (حركة القوميين العرب). كما سيتولّى المسيحيون مسؤولية النضال القومي العربي، خاصة الفلسطيني. دون أن ننسى سرحان بشارة سرحان، المسيحي الفلسطيني المولود في طيبة في الضفة الغربية وقاتل العضو في مجلس الشيوخ الأميركي روبرت كندي شقيق الرئيس جون كندي المقتول، في 5 حزيران 1968، وهو تاريخ ذكرى نكسة حزيران 1967، وذلك رداً على إعلانه دعمه المطلق لإسرائيل.
سيُعتبر جورج حبش مؤسس الحركة الشعبية لتحرير فلسطين ذات الطابع الشيوعي، واحداً من أكبر القادة الفلسطينيين المعتبرين في هذه الحركة. بينما كان الشاعر الفلسطيني المسيحي كمال نصر المتحدث باسم المنظمة الجامعة لكل الفصائل الفلسطينية، وكان هيلاريون كبوشي مطران الروم الكاثوليك في القدس، معتقلاً في السجون الإسرائيلية بتهمة نشاطه الداعم للمقاومة الفلسطينية، مثله مثل المطران عطالله حنا مطران الروم الأرثوذكس في سبطسية فلسطين.
ضمّت الحركة الفلسطينية في صفوفها شخصيات يهودية مناهضة للصهيونية مثل Ilan Halévi، الذي أصبح المتحدث باسم فتح في منظمة الاشتراكية العالمية وغيره من الشخصيات المهمة من مجموعة Black panthers الإسرائيلية في السبعينيات من القرن الفائت.
■ استراتيجية إسرائيل لزعزعة استقرار المنطقة
سيلعب البعد المسيحي لجورج إبراهيم عبدالله دوراً أساسياً في المعاملة الظالمة التي ستخصّها به فرنسا.
أ‌- الترتيب الزمني للأحداث شاهد على استراتيجية إسرائيل لزعزعة استقرار المنطقة.
كانون الثاني 1968: قصف جوّي إسرائيلي لمطار بيروت يؤدي إلى تدمير كامل أسطول الطيران المدني اللبناني.
تموز 1972: اغتيال المتحدث باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين غسان كنفاني وابنة أخته ذات السبعة عشر عاماً في بيروت بسيارة مفخّخة وضعها عملاء إسرائيليون. كان كنفاني يُعتبر شخصية أدبية فلسطينية كبيرة في العالم العربي.
بعد أقل من سنة، في نيسان 1973: قصف جوي إسرائيلي على مركز مدينة بيروت قتل فيه ثلاثة قادة فلسطينيين، كمال نصر المتحدث باسم فتح، أبو يوسف نجار وزير الداخلية في المنظمة الفلسطينية المركزية، كمال عدوان المكلّف بحركة الشباب الفلسطيني في فتح.
ستشتعل الحرب الأهلية اللبنانية بعد سنتين أي في نيسان 1975. وهذه الصدفة الزمنية ليست دائماً عَرضية، قد تكون أحياناً متعمّدة.
ب‌- على الصعيد الإقليمي.
إن الهجوم الذي أدى إلى اعتقال جورج إبراهيم عبدالله حدث في كانون الثاني 1982، في ظروف إقليمية متفاقمة تميّزت بما يلي:
- تدمير الطيران الإسرائيلي لمحطة تموز النووية العراقية في 7 حزيران 1981.
- قرار ضمّ اسرائيل لهضبة الجولان السورية في 14 كانون الأول 1981.
- إعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل في كانون الأول 1981.
هل يجب التذكير أنه في كانون الثاني 1982 وقبل ستة أشهر كان هدف الاجتياح الإسرائيلي للبنان إيصال حليفها بشير الجميل زعيم ميليشيا الكتائب إلى السلطة؟
معادلة شخصية جورج إبراهيم عبدالله.
سيلعب العامل المسيحي عند جورج إبراهيم عبدالله دوراً حاسماً في المعاملة الظالمة التي ستخصّه بها فرنسا.
إن اغتيال الدبلوماسيين في فرنسا والإجراءات القانونية المتّخذة ضد جورج إبراهيم عبدالله ستحدث على مسرح صراع نفوذ بين فرنسا، شريكة العراق في حربها ضد إيران وبين الحلف المناهض للهيمنة الأميركية-الإسرائيلية في المنطقة: سوريا وإيران والمعسكر التقدمي في لبنان الملتفّ حول الحزب الشيوعي الفلسطيني والفصائل المقاتلة الفلسطينية.
في هذا السياق، سيبدو جورج إبراهيم عبدالله كأحد الأضرار الجانبية لهذا الصراع، أو الحلقة الضعيفة إن لم نقل كبش الفداء المثالي.
إنه كبش الفداء لأنه لبناني مسيحي شيوعي مؤيّد للقضية الفلسطينية، لأنه بكل بساطة يطيح بالقراءة التقليدية لما يحدث ويكسر كل مفاتيح فهمه.
الحالة الفرنسية: دراسة مقارنة بين حالة أنيس نقاش وجورج إبراهيم عبدالله.
أنيس نقاش، مسلم لبناني، زعيم فرقة حاولت اغتيال آخر رئيس وزراء شاه إيران شهبور بختيار، في 18 تموز 1980 في منطقة Neuilly sur Seine وحُكم عليه بالسجن المؤبّد في 10 أيار 1982.
راح ضحية عملية الاغتيال 3 قتلى وجريحان. من بين القتلى الشرطيان. بغضّ النظر عن هذه الحصيلة الدامية، فقد حصل نقاش على عفو رئاسيّ أيام فرانسوا ميتران في 27 تموز 1990 على خلفية مباحثات شاملة بين فرنسا وإيران بشأن الرهائن الفرنسيين في لبنان.
وهكذا قضى أنيس نقاش عشر سنوات من حكمه لعمل ذهب ضحيته ثلاثة فرنسيين بينهم شرطيان.
هذا يدفع للاعتقاد بأن فرنسا قد تساوم على مصالحها الوطنية أمام الضغوط الخارجية.
لماذا هذا الفرق في التعامل مع هذين اللبنانيين المناضلين من أجل القضية الفلسطينية أنيس نقاش وجورج إبراهيم عبدالله؟
الجواب بكل بساطة هو أن أنيس نقاش تدعمه بلا هوادة قوة إقليمية تريد أن تفرض احترامها على الساحة الدولية، بينما جورج إبراهيم عبدالله هو مواطن في بلد اسمه لبنان غرق زعماؤه الواحد تلو الآخر في استغلال مناصبهم في مجال الأعمال مع نظرائهم الفرنسيين من دون الالتفات إلى مواطنيهم المعتقلين ظلماً في فرنسا.
باستثناء الرئيس إميل لحود (1998-2007) الذي كان يأخذ عليه الغرب دعمه لحزب الله، لم يقم أي رئيس لبناني بذكر قضية جورج إبراهيم عبدالله أمام المسؤولين الفرنسيين:
بينما في المقابل، استطاع أمين عام حزب الله حسن نصرالله تحرير عشرات الأسرى المناضلين من أجل القضية الفلسطينية اللبنانيين والعرب مقابل إطلاق سراح سجناء إسرائيليين، نذكر منهم عميد السجناء السياسيين العرب في إسرائيل اللبناني الدرزي سمير قنطار ولم يكن بينهم شيعي واحد.
يمثل جورج إبراهيم عبدالله المثال المضاد لكل المعارضات العربية الحديثة التي تتحكم فيها قنصليات القوى الاستعمارية القديمة والتي تضع ربطات العنق وتحمل البطاقات المصرفية الذهبية لحسابات تُغذيها مشيخات البترو-دولار.
إنّ تمديد اعتقاله بطريقة مُخزية قد رفعه إلى مصافّ الرموز النضالية النزيهة.
تشكل قضية جورج إبراهيم عبدالله بمحاكمته الظالمة وحكمه المشين عاراً على عار في تاريخ العدالة. رفعه الحكم بالنفي إلى مصافّ الأبطال الأسطوريين في تاريخ النضال الفلسطيني مثل مروان برغوتي زعيم فتح وأحمد سعدات زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إنه دليل التقزّم السياسي للزعماء اللبنانيين والفرنسيين في آن معاً.
يسرّ المحكمة أن تقضي بالحكم على الدولة الفرنسية بجريمة «إساءة استعمال السلطة» وإنزال عقوبة «السخط الوطني» على موظفيها وزير الداخلية مانويل فالس، ووزير الخارجية لوران فابيوس، «لتقاعسهما في واجباتهما وخيانتهما لثقة الشعب الحرّ والمبادئ الأساسية التي تقوم عليها الديمقراطية وقيم الجمهورية».
عاشت فلسطين! عاش جورج إبراهيم عبدالله! وليبقَ مثلاً يحتذى به للأجيال القادمة!

(*) كاتب وصحافي لبناني. ناشر موقع «مدنيّة» الذي ينشر هذا النص بالفرنسية تزامناً مع «الأخبار»

* ترجمة: سناء يازجي خلف