الفرح والأمل وتوزيع السعادة ليست وظائف أحد. توزع الأدوار وتوزيعها قد يكونان ضمن مستويات متفاوتة للتعامل مع الكارثة. الكارثة التي سيصل إليها بلد تقود سياسته المصارف التي هو مدين لها، وهذا الخطاب ما زال غائباً عن ألسن محتلي الهواء على الشاشات. المشهد الإعلامي في غاية البساطة: لدى الناس ما يقولونه في الشارع. هل لدى الذين يخرجون على الشاشات ما يقولونه؟ حتى الآن، النفي إجابة عادية. كذلك، المشهد في غاية التعقيد. فالأمل مبالغ فيه. ليس ضرورياً في غير وقته، وليس هناك من أي حلّ للأزمة قبل الاعتراف بها، أو في الحالة الإعلامية اللبنانية تحديداً: عدم التخلي عن هذا الاعتراف. الاعتراف أهم من الأمل، وأكثر رجاحة بكثير. حتى الآن، ما يجمع المؤسسات الإعلامية بالتظاهرات والمتظاهرين، هو الاعتراف. استمرارهم في التحرك ضدّ الأزمة بمواكبة إعلامية، على أرضية لا تخلو من ذهول جميع الأطراف بأنفسهم. الناس صدّقت أنها تستطيع أن تفعل ما تريد فعله، أو على الأقل تقول ما تريد قوله، من دون طوائفها، والإعلام لوهلة أيضاً صدّق أنه يمكن أن يكون خلف الناس، وليس خلف الطبقة المهيمنة.
(رامي قانصوه)

تبدو الأمور مختلفة قليلة على الأرض. الإصرار الذي يبدو عليه المتظاهرون، متجمعين ومتماسكين في أحيائهم، لا يبدو دقيقاً في التلفزيون. قبل الكاميرات، لا يبدو هؤلاء متحمسين لتأكيد انتمائهم إلى الجوع وإلى الأزمة، قبل انتمائهم إلى أي حظيرة طائفية. ظهورهم على التلفزيون، في كثير من الأحيان، يجعل هذه المتلازمة ضرورية، أي نفيهم لأي صبغة طائفية مشبوهة عن اعتراضهم. في الليلتين الماضيتين، ورغم عدم وجود أي مظهر «طليعي» في التظاهرات، كان وعي المتظاهرين بالمحصلة، وفي محطات كثيرة، يتجاوز وعي المراسلين التلفزيونيين. مراسلو قناة «الجديد» الطيّبون، دخلوا في سجالات مع المتظاهرين على الطريقة اللبنانية، كما لو أنهم جزء من النقاش. مراسلو «أم تي في» حاولوا الإسهام في تحييد بعض الشخصيات. مراسلو «أو تي في» كانوا مستغرقين في مشاهدة الأحداث عبر شاشات أخرى، لأن «تيتا لطيفة» كانت تُعدّ طبقاً شهياً من الكفتة والبطاطا على شاشتهم. في جميع الحالات، اندفاع الإعلام على نحو متواتر، يشبه تواتر الناس أنفسهم إلى الطرقات، ويقود إلى مجموعة ملاحظات رئيسية.
أولاً، التفاوت الرهيب في الحِرفية بين العاملين في المؤسسة الإعلامية الواحدة. مثلاً، على «الجديد»، على نقيض من المناوشات الحامية بين بعض مراسلي «الجديد» المبتدئين مع الناس، النابعة من شعور فظيع بسُلطة منحهم الحق في الحديث، بدا مراسل «الجديد» في مار مخايل مرتاحاً مع نفسه، حاضراً وجاهزاً، كما لو أنه يعرف هؤلاء الناس. وإذا أردنا استخدام لغة أكثر علمية، يبدو أنه يعرف ما الذي يريده هؤلاء الناس، وكيف يريدون قوله، وإلى من يتوجهون بأقوالهم واعتراضهم. وينسحب هذا على مراسلي «أم تي في»، في المناطق المتوزعة شرق العاصمة، حيث انتشروا كما ينتشر الجنود في «مواقع آمنة». هذه الملاحظات عن «التركيبة»، ستكتسب قيمة إضافية عندما يتضح أن مراسلة «أم تي في» لم تستطع تحمّل التكسير والفوضى في محيط وسط المدينة، وأسرفت في حديث – لم يسبقها إليه إلا مناصرو مارين لوبن – عن «تغيّر نوعية المتظاهرين». الحديث عن النوعيّة ليس غريباً في لبنان، وهذا «الفحص» السريع تمّ إجراؤه عادةً، وإعلانه من قبل سياسيين تشربوا «الصيغة» التي صار علكها وبصقها على الهواء أو تحت الهواء، بلا أي فائدة، خاصةً بعدما ثبتت لا مركزية الحراك، واستحالة تبعيته لأي جهة خارجية، على نقيض من مصالح المرتزقة والانتهازيين.
ثانياً، أصوات الناس كانت أعلى من المؤسسات الإعلامية، أو المؤسسات التي أدرجت نفسها في هذا التصنيف، رغم أنها تشكّلت في الأساس كمؤسسات طائفية. هذه المؤسسات وجدت نفسها في اليومين الماضيين تتحرك داخل النظام وليس خارجه، لكنها شعرت لأول مرة بقيادة جديدة للنظام. لقد قاد المتظاهرون تظاهراتهم، وخرجوا بأنفسهم، على نحو محكم، إلى درجة صعّبت على الأبواق المعتادة «التشويش» على التظاهرات، وإضافة أبعاد مؤامراتية خيالية إليها. وهذه نقطة أساسية. لوقت طويل، حكمت علاقة هذه المؤسسات بالسُلطة، وحكمت علاقة اللبنانيين بإعلامهم. علاقة تقتصر على تبادل جرعات من الطائفية، ومن تمييع متواصل للأزمة. وفي الليلتين الماضيتين، كانت المؤسسات الإعلامية – وليس جميعها طبعاً على الدرجة ذاتها من العلاقة بالسُلطة القائمة – قد وجدت نفسها خلف سُلطة جديدة، لا تعرف التعامل معها، بحيث إن هؤلاء الناس لا مرجعية حزبية وطائفية محددة لهم. القول إن اللبنانيين الذين شاركوا في التظاهرات خرجوا من طائفيتهم إلى الأبد هو قول مبالغ فيه، وتعطّله التغطية الإعلامية نفسها. لقد وضعوا طائفيتهم جانباً، ما اضطر المؤسسات الإعلامية إلى أن تضع علاقتها بالطبقة المهيمنة المتذرعة بوصايتها على الطوائف جانباً. ودائماً، ينبغي التنبيه إلى أن التلفزيون، بالاستناد إلى مراجعة طويلة لبورديو، لا يمكنه إظهار الصورة كاملة، لأن إظهارها يعطّل جزءاً أساسياً من صورته.
تحميل القنوات مسؤولية التصريحات العنصرية ليس عادلاً في بعض الحالات


ثالثاً، الإعلام معني بفتح الهواء للاعتراضات والمعترضين، لكنه معني أيضاً بالبحث عن أصوات داعمة للتظاهرات، وقادرة على رفع مستوى المطالب إلى درجة واقعية. الصرخات من الحناجر المتعبة هي الحقيقة، ولكن يجب أن يجد المتظاهرون في الإعلام المادة التي يبحثون عنها وهي موجودة، للرسو على مطالب من شأنها منع أركان السُلطة من التمييع. بين الطبقة الأوليغارشية التي فعلت ما فعلته ولم تشبع، وبين الطبقة المضادة، وجوه وأسئلة كثيرة. هذا ما لا تظهره وسائل الإعلام التلفزيونية. لأسباب عديدة، اكتفت هذه المحطات، على مدار اليومين الماضيين، بالذهول. انبهرت بالأصوات القوية، بخروج اللبنانيين أخيراً عن صمتهم. اكتشف الإعلام اللبناني خلال اليومين الماضيين أن «الأكثرية الصامتة» يمكنها أن تتحدث، وأن تصرخ، وأن تعلن عن نفسها كأكثرية، قابلة للاتساع أو للانحسار. اكتفت الوسائل الإعلامية بفتح الهواء، وإرسال مراسلين يتفاوتون في درجة الحرفية، وفي درجة الطائفية تبعاً للمؤسسات التي خرجوا منها. في المقابل، لم يظهر من يتحدث عن دور المصارف، وعن المخارج الممكنة. تعرّفت المؤسسات الإعلامية إلى نوعين من الوجوه وحسب؛ النوع الأول وهو الأكثر سطوعاً وحقاً بالمشهد، وهو الذي أجبر الجميع على الاستماع إليه. والنوع الثاني هو النقيض، أي الوزراء وأركان السُلطة. بسُلطته، استطاع الإعلام لوقت طويل تقديم الكثير من الأصوات الانتهازية على أنها من دعاة الإصلاح والمقاومة وما شاء الله من شعارات. حتى ليل أول من أمس، خسر الإعلام هذه السُلطة. الناس كفرت بكل شيء، والإعلام كان ينقل كفرها، محافظاً على خيط رفيع من العلاقة بالسُلطة تحت ذريعة واهية هي «المعايير المهنية»، ويعلن بصوت خافت: «لست بكافر».
رابعاً، هناك أشياء لا يمكن تفاديها في أحداث جارفة. تحميل الإعلام مسؤولية التصريحات العنصرية هنا وهناك ليس عادلاً في بعض الحالات، وفي حالات أخرى قد يكون ضرورياً. المسألة شائكة ولا يمكن توقع محاضرات في الدفاع عن المجتمع بين جحافل المتظاهرين الجائعين. العمل على نبذ هذه الأفكار متأخر، والإعلام لعب دوراً سلبياً يشبه دور السُلطة التي أوهمت الناس بوجود مشكلة مع اللاجئين. على الإعلام أن يستقيل من دوره في فضح هذا الوهم، إضافة إلى الأوهام الأخرى، التي رسّخها النظام لوقت طويل، مثل مديح الجيش والعسكر، الذي لا يدل إلا على وجود خوف عميق ما زال كامناً في مكان ما في نفوس المتظاهرين. الأمل لا يكفي، الاعتراف هو أول الطريق، والمجد يبقى دائماً للذي قال لا.