في السنوات الثلاث الأخيرة، ازدادت حدّة الأزمة تدريجاً. ففي صيف 2016 عندما نفّذ مصرف لبنان الهندسة المالية الكبرى التي حققت للمصارف أرباحاً استثنائية بقيمة 5.6 مليارات دولار، لم يكن هناك اعتراف بوجود أزمة أصلاً. الإنكار استند إلى نتيجة نهاية تلك السنة في ميزان المدفوعات (الفارق بين الأموال التي خرجت من لبنان وتلك التي دخلت إليه) الذي «أعيد» اصطناعياً إلى حالة الفائض بعد 5 سنوات من العجز. الاعتقاد السائد بأن الأمر تحت السيطرة، سرعان ما تبدّد في نهاية السنة التالية بانتهاء مفاعيل الهندسات وفشلها في الحفاظ على استقرار الفائض في ميزان المدفوعات، إذ في نهاية 2017 عاد العجز مسجّلاً ما قيمته 155 مليون دولار. وتكرّس العجز في نهاية السنة التالية، أي 2018 مرتفعاً إلى 4.8 مليارات دولار ليبلغ في نهاية آب 2019 نحو 4.4 مليارات دولار، رغم مواصلة مصرف لبنان تنفيذ الهندسات للسنة الثالثة على التوالي ولجوئه إلى عمليات جديدة، كان أبرزها استقطاب وديعة بقيمة 1.5 مليار دولار عبر شهادات إيداع صادرة عنه ومدرجة في أسواق أوروبا. في 2018، لم يكن الدولار قد تفلّت من عقاله، وإن كانت سيولة المصارف بالدولار قد تقلصت وراكمت صعوبات في تمويل الاعتمادات والتحويلات الخاصة بالتجارة وتلبية طلبات المودعين في تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار. أما في 2019 فقد لجأت المصارف إلى قيود وضوابط تشبه إلى حدّ كبير ما يسمى «كابيتال كونترول» (تقييد التحويلات)، فحدّدت سقوفاً على سحب الدولار النقدي والليرة أيضاً، ورفعت العمولات على تحصيل الشيكات بالليرة والدولار، وفرضت رسماً على السحب النقدي ارتفع تدريجاً من 3 بالألف إلى 5 بالألف من قيمة السحب. كذلك وضعت الكثير من العراقيل لتحويل الودائع بالليرة إلى ودائع بالدولار، أو لسحب الودائع إلى الخارج.وقبل أسابيع قليلة، صار سعر الليرة سعرين: الأول بين المصارف ومصرف لبنان بحسب السعر المحدّد من الأخير بقيمة 1507.5 ليرات مقابل كل دولار، والثاني بين الصرافين والشركات والأفراد الذي تجاوز 1600 ليرة مقابل كل دولار.

التحضير للأسوأ
السؤال المطروح في السوق «ماذا بعد؟» قد يكون شعبوياً جداً بالنسبة الى دولة ليس فيها شبكات أمان. فالأجدى التحضير للسيناريو الأسوأ. مَنْ وما يتوجّب حمايته اليوم؟ ينطلق هذا السؤال من مخاوف برزت أخيراً من أن تعمد الطبقة الحاكمة التي تتعامى اليوم قصداً أو جهلاً عن حقيقة الوضع، إلى إعادة إنتاج النموذج الاقتصادي السابق القائم على تدفق الدولارات من الخارج لتمويل الاستهلاك العام والخاص. ففي سبيل إعادة الإنتاج هذه، ستقوم هذه القوى بتسليم البلد إلى صندوق النقد الدولي ومجموعة الدول المانحة ونادي باريس للدول المفلسة، لتطبيق وصفة جاهزة تعالج الأزمة بالتقشف وبيع أملاك الدولة ومواردها المرتقبة وفرض الضرائب على الأفراد والشركات. بمعنى آخر، هذه الوصفة تشمل تقليص الرواتب والأجور في القطاع العام وفرض الضرائب على الاستهلاك (كالبنزين وزيادة ضريبة القيمة المضافة مثلاً)، والخصخصة لبيع الكهرباء والمياه والنقل العام، وصولاً إلى بيع النفط المرتقب استخراجه من البحر، وتقديم الذهب كضمانات للودائع التي يُشترى بها المزيد من الوقت.

المزيد من الهجرة والفقر
في ظل سيناريو كهذا، «ينبغي توقع موجات هجرة غير مسبوقة ولا سيما من الفئات القادرة على ذلك»، بحسب الخبير الاقتصادي كمال حمدان. وهذا الأمر سيترافق مع تراشق أهل الحكم حول طبيعة المعالجات للأزمة. أما الخيار الثاني، ورغم أن «حظوظه ضعيفة»، فيمكن «أن تبرز تشكيلة قادرة على خرق الطوائف ممن لهم مصالح حقيقية في صياغة نموذج أكثر ملاءمة، فيكونون قادرين على التجمّع في إطار أوسع بكثير مما شهدناه ونشهده اليوم، وفرض أنفسهم جزءاً من الحلّ لمنع انحلال الدولة ورضوخ الطبقة السياسية للوصفات الجاهزة»، وفق حمدان.
مفهوم توفير الحماية وشبكة الأمان «مرتبط بمفهوم العدالة»، وفق الوزير السابق شربل نحاس. فهو يشير إلى ضرورة أن تكون هناك إجراءات مناسبة لحلحلة كل العقد ابتداءً بحماية الفئات المهمّشة عبر إقرار التغطية الصحية الشاملة، وصولاً إلى حماية أملاك الدولة ومواردها. «إذا كان هناك من يسعى إلى تغيير النموذج، فيجب أن يكون جاهزاً للحصول على استثمارات مجدية توفّر النقل المشترك، على سبيل المثال، في مقابل زيادة الضرائب على السيارات والبنزين، وأن نحصل على الاستثمارات التي تخلق فرصاً للعمل مقابل تقليص الاستيراد…».

حماية المداخيل المتدنية
مثل هذه الأمور تشكّل حاجز حماية للفئات الأكثر هشاشة. فبحسب حمدان، تشير إحصاءات الضمان الاجتماعي إلى أن الأجور المصرّح عنها لديه تتوزّع بنسبة الثلثين على شريحة أجرها الشهري أقل من مليون ونصف مليون ليرة. «ومن الواضح أن ما بين 20% و40% من الناس ستطالهم خطوط الفقر. خطّ الفقر الأدنى لمن يتقاضون أقل من مليون ليرة، وخطّ الفقر الأعلى لمن يتقاضون أقل من مليون ونصف مليون ليرة شهرياً». ويأتي هذا التصنيف في ظل حدّ أدنى للأجور يبلغ 675 ألف ليرة، أما التصحيحات التي طالته على مدى السنوات الماضية، فلا تتجاوز 50% من التضخم اللاحق بالأجور بين عامي 1996 و2019، كما يقول حمدان.
إذاً، ثمة ضرورة لحماية المداخيل المتدنية من تبعات الأزمة. في مصر، يقول أحد الخبراء، أجرت الدولة تصحيحات مقابل إعادة تقويم سعر العملة بشكل طوعي، وجرى التعويض على الفئات الأدنى دخلاً بنسبة معينة «إذ إنه في غياب أي تصحيح يمكن أن تفقد الأسر المتدنية الدخل ملجأها الأساسي، وهو السكن، إلى جانب مجموعة أخرى من الحاجات الأساسية المسعّرة بالدولار الأميركي».

أولوية صغار المودعين
وعلى مستوى أعلى قليلاً، يجب حماية صغار المودعين. هم يشكّلون العدد الأكبر من المودعين. فالإحصاءات عن تركّز الودائع تشير إلى أن 0.86% من مجمل الزبائن، ممن يملك كل منهم وديعة بقيمة مليون دولار وما فوق، يستحوذون وحدهم على 51.96% من مجمل الودائع المصرفية، ويستحوذ 7.29% من الزبائن، ممن يملك كل منهم وديعة تراوح قيمتها بين 100 ألف ومليون دولار، على 33.87% من مجمل الودائع (56.5 مليار دولار). أمّا الزبائن الذين يملكون ودائع مصرفية حدّها الأقصى 100 ألف دولار، فيمثّلون 32.62% من مجمل الزبائن، ويستحوذون على 13.54% (22.6 مليار دولار) من مجمل الودائع، فيما 59.23% من الزبائن لا يملكون سوى 0.64% فقط من مجمل الودائع المصرفية.
كبار المودعين لديهم النفوذ على تحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار، فيما الضوابط التي تفرضها المصارف تركّز على صغار المودعين الذين لا يملكون أي ضمانات فعلية، علماً بأن «خروج الكبار وانسحابهم هما المشكلة»، يقول الخبير، مشيراً إلى أن «المؤسسة الوطنية لضمان الودائع تضمن الوديعة الواحدة لحدود 5 ملايين ليرة. هذا الأمر يوجب رفع ضمانة الوديعة إلى حدّ أدنى يبلغ 75 مليون ليرة حتى يكون لها جدوى في مواجهة أزمة من هذا النوع».
أولويّة حماية المدّخرات والذهب والنفط وأملاك الدولة من البيع


وما يعزّز هذه النظرة أن تدخلات مصرف لبنان الأخيرة توحي بأنه يسعى لنقل الأزمة النقدية إلى القطاع الخاص ولصغار المتعاملين مع المصارف من دون أن يأخذ في الاعتبار أوضاع المصارف الفعلية ومشاكلها الكامنة تحت الرماد، من الديون المتعثّرة وتركزّ هذه الديون في القطاع العقاري… «فبدلاً من أن يضع المصرف المركزي خطّة لمواجهة الاستحقاقات المقبلة، لا يزال متواطئاً مع المصارف في اللعبة نفسها، أي تشجيعهم على استقدام الدولارات مقابل أرباح سخيّة. لم يلتفت المصرف المركزي بعد إلى أن جزءاً كبيراً من موجودات المصارف بالعملات الأجنبية لا يمكن استردادها»، وفق الخبير نفسه.

الذهب والتعويضات والنفط أيضاً
وتعدّ حماية الذهب الذي يملكه لبنان من أساسية شبكة الأمان التي تكرّس تغييراً في النموذج. فعلى إثر الحملة التي قامت بها حركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، تبيّن أن أكثر من نصف الذهب اللبناني خارج لبنان، ما يوجب البدء بإجراءات استرداده ليكون لدى لبنان حدّ أدنى من الحماية تجاه الأزمة المرتقبة.
كذلك، يجب البحث عن حماية مدّخرات الأجراء في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. نظام تعويض نهاية الخدمة هو أصلاً نظام ”بخيل“ إذ يبلغ متوسط التعويض بين 15 مليون ليرة و20 مليوناً، وبالتالي يجب البحث في الخيارات المتاحة لتحويل هذه الأموال إلى أصول قابلة للتداول والتسييل. «يجب أن يتناسب الأمر مع ضرورة حفظ قيم التعويضات. على سبيل المثال، في إيران زاد الطلب على السيارات عندما تدهورت الأمور، لأن الناس ظنّوا أن السيارات تحفظ قيمة مدّخراتهم. هذا المثال يضرب ولا يقاس لمعرفة أي ملجأ متاح أمام الأجراء».
وفي حال قرّرت قوى السلطة اللجوء إلى بيع أملاك الدولة، كما اقترح الحريري في ورقته الأخيرة، فإن الأمر يصبح مدعاة للقلق. فهناك احتمال أن تلجأ هذه القوى إلى بيع النفط في البحر بعقود طويلة الأمد وبأسعار بخسة بهدف شراء المزيد من الوقت لهذا النموذج الذي يحتضر.
أول اختبار لما هو مطلوب من الدولة لجهة حماية الفئات الأكثر هشاشة وأملاكها ومواردها، يكمن في مناقشات الموازنة، حيث يجب أن يظهر بشكل واضح من سيقود التغيير في المرحلة المقبلة. النقاش السائد حالياً بين وجهات النظر يعطّل أكثر فأكثر أي مشروع من هذا النوع. فهناك صراع بين وجهة نظر تريد شراء المزيد من الوقت من دون حساب كلفة ذلك، والتي قد تكون أكبر من كلفة الانهيار، وهناك وجهة نظر تدعو إلى فرض إصلاحات تصبّ في مصلحة التغيير. عدم حسم الأمور في هذا الصراع يصبّ في مصلحة تسليم البلد لصندوق النقد الدولي ونادي باريس ووصفاتهما الجاهزة.