ما يواجهه المشرق العربي ودُوله ومجتمعاته ومحيطه التاريخي يقتضي مقاربة الأمور من دون مواربة، بعيداً عن الكلام المُعسّل من نمط «حوار حضارات» لم تنتظر بالمناسبة السيّدين جوزي لويس زاباتيرو ورجب طيبّ أردوغان لتتفاعل سلباً أو إيجاباً عبر التاريخ.لذا، ومساهمة في نقاش يطال أوجهاً أساسية من حياتنا المجتمعية الراهنة والمستقبلية نورد ما يلي:
1 - تتعرّض المجتمعات المشرقية لمشاريع تفكيكية تقسيمية متجددة تهدف إلى تدمير شخصيتها التاريخية المتنوعة وإلغاء ذاكرتها وتحديث آليات شرذمتها وإفقارها والعبث بمستقبلها المشترك.
2 - من هذا المنطلق، لا مفر من مقاربة المسألة سوى من خلال سياقها التاريخي، وتحديداً منذ القرن التاسع عشر، أي بالتزامن مع الصعود الاستعماري كحقبة من تاريخ الدول الأوروبية، والذي أدّى، في ما يخصّنا، في ما أدّى إليه، إلى اختراع «المسألة الشرقية» الذي تحوّل إلى تثبيت القراءة الاستشراقية لواقع مجتمعاتنا على قاعدة التوزيع والتصنيف بين «أكثريات» و»أقليات» وهي قراءة تجترُّ نفسها حتى يومنا هذا.
3 - تختزل هذه المقاربات الشخصية المشرقية بعناصر أحادية جامدة ومُبسّطة ومُقوْلبة مبنية على «هويات» ورَقيّة دينية أو مذهبية أو «عرقية» (مع التحفظ الشديد على هذا المصطلح). هذه المقاربة تؤدي إلى إفقار (متعمّد) للمجتمعات المشرقية وفق صِيغ على نقيض مطلق مع الشخصية المجتمعية المشرقية المكوّنة أساساً من التفاعل والتثاقف بين عناصر ومشارب متعدّدة تثريها وتشارك في آليات الترقّي الفردي والجماعي.
4 - على سبيل المثال لا الحصر (ومن دون إغفال التيارات الاستشراقية العسكرية والمدنية في القرن التاسع عشر) نورد هنا أحد أهم الوجوه المعاصرة لهذا «الاستشراق العملاني»، أي الذي لا يكتفي بروايات ايديولوجية في دوائر مقفلة وضيقة، بل يدخل في سياسات واستراتيجيات عسكرية تؤسس لعمليات تدميرية شديدة الخطورة نعيش حالياً مخلفاتها، ليس فقط في العراق، بل في مجمل الاقليم. إنه المستشرق برنارد لويس الذي أسّس منذ كان موظفاً في وزارة الحرب الأميركية (البنتاغون) لرؤية جامدة لحياة المجتمعات والانسان المشرقي (المختزل في «هوية» دينية ساذجة تنفي حركة التاريخ وتفاعلاته). هل نذكر أن لويس المذكور هو من صاغ الروايات الإيديولوجية التي اعتمدت من قبل الآلة العسكرية السياسية الإعلامية الأميركية والتي مهدّت لغزو العراق من جهة والتنظير لـ«الشرق الأوسط الجديد» من جهة أخرى؟
5 - ان النموذج الفجّ لهذه الرؤية تجسّده الايديولوجيا الصهيونية والكيان الصهيوني. من هذا المنطلق بالذات، إن أيّ عملية تكامُل وتعاضد وتفاعل بين دول ومجتمعات المشرق وإعادة تملُّكها لتاريخها وذاكرتها وسيطرتها الذاتية على مقدّرات وآليات بناء مستقبلها تمر بالضرورة عبر مواجهة المشروع الإسرائيلي ــ الصهيوني بصفته «النموذج». يكفي الاطلاع على نص عوديد ينون (1978) بعنوان «استراتيجية إسرائيل للثمانينات»، ومقارنة الخطط والتوجهات التي رسمها هذا المستشار لمناحيم بيغن ومقارنتها بما يحصل على الساحة المشرقية للتأكد من ذلك.
6 - أما أخطر ما في الأمر، فيتمثل في استيطان الرؤية الاستشراقية الاستعمارية وغرس رواياتها المزيفة والمشوّهة في أذهان الشعوب «ونخبها» من خلال آليات ثقافية مستوردة ومستندة إلى مؤسسات جامعية وفكرية وديناميات معقدّة تقود الى استلاب فكريّ خطير، بمعنى أن الوعي الفردي والجماعي للذات وللشخصية المجتمعية ناجمٌ عن استيطان رواية خارجية عن انفسنا، وهو إحدى أخطر النتائج البنيوية والنفسية للسيطرة الاستعمارية.
7 - على قاعدة ما سبق، إن من بديهيات بناء المستقبل المشرقي إطلاق ورشة تاريخية مديدة هدفها إعادة وصل ما انقطع وإعادة تصحيح المسار الذي بدأ تشويهه في القرن التاسع عشر وإعادة بناء خطوط التواصل والتفاعل في النسيج المجتمعي المشرقي، وتحديداً في أحلك الظروف التي تحكم الحالة الراهنة.
ورشة هي بمثابة عملية تاريخية معكوسة تهدف الى ترجيح كفة ديناميات التوحد على ديناميات التفسّخ والتخلّع. عملية تسهم فيها جميع القوى الفاعلة في مجتمعاتنا (جامعات، اتحادات وهيئات مهنية، غرف تجارة وصناعة، نقابات الخ...) على قاعدة الانتماءات الوطنية المبنية أولاً وأخيراً على مبدأ المواطنة، بما هي الوعاء الذي يستوعب الخصوصيات على أنواعها ولا يُلغيها، ليصُبّ تنوّعها في إغناء النسيج المجتمعي المشترك، فيُسهم كل فرد وتسهم كل جماعة في بناء الحياة المشتركة.
مرحلتنا التاريخية الراهنة يا سادة هي مرحلة تحرّر وطني.
فهيا بنا نبادر.

* عالم اجتماع