مع كلام رئيس الجمهورية ميشال عون عن التطور الإسرائيلي الأخير في لبنان، يدخل الرئيس الاستحقاق الأمني الثاني في عهده، المختلفين بظروفهما وعناصرهما، بعد عملية فجر الجرود، على تقاطع مع حزب الله وتنسيق معه. فبعد تشنج الوضع الداخلي الأخير، أعاد عون تفعيل دوره مجدداً، على خط الوضع الاقتصادي. لكن الاعتداءات الإسرائيلية دفعت به مجدداً كي يمسك بزمام الأمور رسمياً، فلا تكون الدولة في جهة وحزب الله في جهة أخرى.قد تكون الصدفة وحدها، جعلت العملية الإسرائيلية في الضاحية الجنوبية، متزامنة مع الاحتفال بالنصر في معركة الجرود، لكن رئيس الجمهورية، الذي تريث في الساعات الأولى للعملية، في انتظار استكمال كل العناصر المتعلقة بها، رفع سقف توصيفه لها الى الحد الأقصى باعتبارها إعلان حرب. ورغم أن موقفه جاء بعد كلام الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله، إلا أن عون أعطى شرعية رسمية لموقف الحزب، ولم يتبنّه فحسب، بل تخطى ذلك الى سعيه الى تشكيل شبكة أمان كبيرة محلية ودولية لاحتمالات الرد على العملية.
يمكن التوقف عند نقاط عدة في دخول رئاسة الجمهورية بقوة عند هذا التطور الأمني الخطير:
أولاً، يمكن ملاحظة أنه منذ اللحظة الأولى للعملية، وقف الحزب وراء بيان الجيش، في توصيف العملية وتحديد إطارها، قبل كلام نصر الله، قبل أن يعود الحزب ليعلن نتيجة التحقيقات في الطائرة الأولى. في سياق تدريجي، كان لبنان الرسمي يتحرك على اتجاهين: رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية من جهة، ورئاسة الحكومة من جهة ثانية. لكن بدا واضحاً أن الطرفين اكتفيا بالاستنكار وتريثا لاتضاح الصورة كاملة. رغم التنسيق بينهما، إلا أن عون تخطى موقف الحريري وتحركه، ليضع بين يديه وحده صلاحية إدارة أزمة تتداخل فيها العوامل الإقليمية والدولية الى حد تهديد استقرار لبنان. وهو أصاب عصفورين بحجر واحد، استعاد الإطار الخارجي وحدد سياسة الدولة، وغطى احتمالات الرد على إسرائيل، وأعطاه شرعية، انطلاقاً من «ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة». وفي الوقت نفسه، حيّد التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل، كمرشح رئاسي، عن خوض مواجهة دولية وإقليمية على هذا المستوى، ليحصر دوره كوزير خارجية ينفذ تعليمات الحكومة أو رئيس الجمهورية. ما قاله عون لا يتحمله مرشح رئاسي يسعى الى تخفيف الأضرار عليه، بل يحسب لرئيس للجمهورية جالس على كرسي الرئاسة، ولا يضع أثقالاً على مسيرة باسيل الرئاسية ــــ دولياً ــــ حتى لو كان يشاطر رئيس الجمهورية الموقف نفسه، علماً بأن بيان وزارة الخارجية، الأحد، ذكر «أن حرص لبنان على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية وتمسكه بالاستقرار لا يسقط حقه في الدفاع عن السيادة الوطنية والقيام بما يلزم لصونها».
ثانياً، حدد عون بعد هدوء الساعات الأولى للعملية، وإثر توالي رسائل التحذير العالية اللهجة ومنها دبلوماسية ومنها عبر القوات الدولية، إطار تحركه، بعيداً عن الحكومة. فاجتماع المجلس الأعلى للدفاع يعني تسلم زمام الأمور وحده وربط قرارات المجلس الأعلى للدفاع به، وإبعاد الحكومة كلياً عن هذا التطور، وهي التي انصرفت الى معالجة قضية النفايات. قد يكون اعتراض القوات اللبنانية سياسياً في محله، لأن الحكومة مجتمعة يفترض ان تتحمل مسؤوليتها، في تطور من هذا النوع، كما ان هناك من افترض ان وجود القوات كان مناسبة لإحراجها في اتخاذ مواقف سياسية تصب في مصلحة الرد على اسرائيل. لكن عون والحريري تناغما عند نقطة اساسية هي حصر التعامل مع هذا التطور من خلال المجلس الاعلى للدفاع، وإبعاد التجاذبات السياسية مجدداً عن الحكومة التي استعادت للتو عافيتها واجتماعاتها. وهنا يحضر جانب اساسي يتعلق ايضاً بوضع الجيش في صورة ما جرى ويتم الاستعداد له، لأن الجيش لن يكون من الآن وصاعداً في منأى عن اي تطور يتعلق بإسرائيل. وسبق ان جرى هذا الحوار في اجتماعات سابقة تتعلق باستعداده لأي عمل عسكري ضد اسرائيل. والجيش الذي احتفل بذكرى معركة فجر الجرود بمناورة عسكرية بدعم اميركي كامل، اسلحة وذخائر وتدريبات، لا يمكن ان يستثمر المناورة اعلامياً ــــ رئاسياً، من دون ان يكون جزءاً اساسياً من اي تدحرج للمواجهة مع إسرائيل.
ثالثاً، لا يمكن عزل التطورات الأخيرة عن توقيت انفجار الكلام عن البحث مجدداً في حيثيات الحدود والقرار 1701 الذي لم يسمّه بالاسم نصر الله في اطلالته الأخيرة. هذا الجانب من التطورات والتفاوض الدولي مع لبنان في شأنه، له اكثر من خصوصية تتعلق بترسيم حدود البحر والبر ووقف الأعمال العدائية. في كل ما جرى، كان عون في خلفية الصورة. اليوم أصبح في مقدمة الحدث. وهو الخارج تواً من «معركة» سلّف فيها واشنطن الإحاطة مجدداً برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، واستيعاب حادثة قبر شمون وإعادة رسم حدود التهدئة الداخلية، هو نفسه الذي يرفع السقف ويطالب المجتمع الدولي بوقف الاعتداءات الإسرائيلية واستعداده لحماية الرد عليها. وهذا الموقف سيذهب به عون الى الحد الأقصى، لأنه بات يملك ورقة أساسية تتعلق بدوره الأخير في حفظ الاستقرار، من دون التخلي عن حليفه حزب الله في ما يتعلق بإسرائيل. فلا يتخطى القرار 1701، لكنه يبقي باب الاحتمالات مفتوحاً، لأنه في هذه النقطة يتحول دوره كرئيس للجمهورية أساسياً أمام المجتمع الدولي، مهما كانت الاعتراضات عليه داخلياً.