بدأت تتكشف نتائج زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري لواشنطن. من أبرز ملامحها، بحسب أوساط قريبة منه، حصوله على مساعدة أميركية في الضغط على وكالة «ستاندر أند بورز» من أجل منح لبنان فترة سماح لمدّة ستة أشهر قبل خفضها تصنيفه من درجة (B-) إلى (CCC+). تشير الأوساط إلى أن الثمن الذي دفعه الحريري مقابل تعويمه وإظهاره بمثابة «بطل» أنقذ لبنان من «كارثة» خفض التصنيف، يكمن في التزامه مجموعةً من البنود، أولها يكمن في إعادة إحياء 14 آذار، وهي الخطوة التي سبق للولايات المتحدة الأميركية أن أعدّت لها عبر إصدار سفارتها في لبنان بيان دعم للنائب وليد جنبلاط على خلفية حادثة قبرشمون. وثانيها، تحويل الحريري إلى شريك مع الرئيس نبيه برّي في المفاوضات المتعلقة بترسيم الحدود للمناطق المتنازع عليها بشأن الغاز مع الكيان الاسرائيلي، ودعم فوز جنرال إلكتريك في مناقصات الكهرباء.وفور عودته من الولايات المتحدة، صرّح مستشار الحريري، النائب السابق غطاس خوري، بأن «الزيارة نجحت، وكان هدفها أن نقول إن المسار الاقتصادي منفصل عن الأزمات التي تواجهها المنطقة». سريعاً، جاءت الترجمة العملية لهذا المسار في اتصال أجراه المسؤولون في وكالة «ستاندر أند بورز» لإبلاغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ووزير المال علي حسن خليل، بأن الوكالة قرّرت منح لبنان فترة السماح التي طلبها عبر وزير العمل كميل بوسليمان، الذي عمل بمثابة منسّق للجنة التي راسلت الوكالة في تموز الماضي، في محاولة لثنيها عن قرار خفض تصنيف لبنان.
ويتعزّز هذا المشهد بتصريحات رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود لصحيفة نداء الوطن، مشيراً إلى أن «السلطات اللبنانية طلبت من القيّمين على ستاندر أند بورز عدم الاستعجال في خفض التصنيف، لأن البلاد تسير على الطريق الصحيح… هناك إشارة من الوكالة إلى احتمال تأجيل التصنيف».
رغم كل هذه الإشارات إلى أن خفض التصنيف بات بحكم المؤجل، إلا أن السوق الدولية حيث تتداول سندات اليوروبوندز اللبنانية، لم يكن لديها الثقة بأن ما يقال صحيح. «فمن الصعب التصديق أن وكالة تصنيف محترمة مثل ستاندر أند بورز، قد تضرب صدقيتها من خلال الرضوخ للضغوط السياسية من المسؤولين الأميركيين، وهي التي خفضت تصنيف أميركا في عام 2011 بما عُدّ أنه أول إجراء من نوعه في تاريخ هذا الولايات المتحدة الأميركية»، يقول أحد مديري المؤسسات المالية في لبنان. فبنتيجة الثقة التي أولاها المستثمرون حول العالم بهذه الوكالة، عمد حملة أسهم سندات اليوروبوندز اللبنانية في الخارج، المقدرة قيمتها بنحو 4 مليارات دولار، من بينها نحو ثلاثة مليارات هي ديون بضمانة السندات، إلى عرض أسهمهم للبيع وتصفيتها للتخفيف من قيمة الخسائر التي يمكن أن تلحق بها نتيجة خفض التصنيف المتوقع. وقد أدّى هذا الأمر، أول من أمس، إلى انخفاض أسعار السندات التي تستحق في 2020 و2021 و2027 و2037 وارتفاع العائد عليها إلى مستويات قياسية بلغ أقصاها 21% (العائد يمثّل الفائدة النهائية التي يحصل عليها حامل السند).
الأسواق الدولية لم تتفاعل مع تسريبات عن فترة السماح لستة أشهر


بصرف النظر عمّا يعنيه الالتزام السياسي للحريري في الانخراط أكثر بالمشروع الأميركي، إلا أن حصول لبنان على فترة سماح لستة أشهر يعدّ ثمناً كبيراً مقابل كل هذه الالتزامات. كذلك يعني أن وكالات التصنيف يمكن أن تخضع لإملاءات سياسية، وليس بالضرورة الثقة بها في مجال تصنيف الديون السيادية للبلدان. فالوكالة، رسمت في آذار الماضي طريق خفض تصنيف الدين السيادي للبنان أو رفعه. ذلك حصل يوم أصدرت تقريراً عن رؤيتها المستقبلية وأسباب تعديلها من «مستقر» إلى «سلبي». فقد زعمت الوكالة أن دواعي خفض التصنيف خلال الأشهر الـ12 المقبلة، متصلة بارتفاع عجز الموازنة ربطاً بتطورات سياسية، أو تباطؤ إضافي في تدفقات الودائع التي تعد شريان التمويل الأساسي للخزينة، أو تقلص احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية.
في الواقع، يقول المطلعون، إن مسؤولة الوكالة في الشرق الأوسط، ذهبية غوبتا، أبدت استياءً شديداً من الأوضاع في لبنان، وذكرت في أكثر من اتصال مع المعنيين في لبنان، عدم ثقتها بنتائج موازنة 2019 التي أقرّت قبل أشهر قليلة من نهاية السنة الجارية، ما يعني شبه استحالة تحقيق الأرقام المزعومة عن خفض نسبة العجز إلى الناتج إلى 7.6%، وهي سألت المسؤولين في وزارة المال عن أوامر الصرف المجمّدة بقيمة ملياري دولار، ومنها 900 مليون دولار في 2019، وسألت المعنيين في مصرف لبنان عن توقف تدفق الودائع وخروج الرساميل وتضخم عجز ميزان المدفوعات بشكل هائل. أيضاً سألت عن تأخّر تطبيق خطة الكهرباء… كل تلك الأمور تركت انطباعاً سلبياً لدى الوكالة تراكم فوقه توقف اجتماعات مجلس الوزراء بسبب عدم الاستقرار السياسي الناجم عن حادثة قبرشمون.
تلميحات غوبتا وفريق الوكالة كانت تنطوي على نتيجة واحدة: «خفض التصنيف». لكن ما حصل لاحقاً من تدخلات وضغوط سياسية أميركية، عدّل المسار في اتجاه منح لبنان فترة سماح، رغم أن المؤشرات التي رسمتها الوكالة لا تنطبق على الحالة اللبنانية؛ فالنموّ المتوقع بحسب صندوق النقد الدولي سيبلغ صفراً في المئة في عام 2019، وهذا يعني أن ما يسمى إصلاحات مالية في الموازنة لن تظهر هذه السنة، كذلك إن احتياطات مصرف لبنان تراجعت من 31 مليار دولار في آذار 2019 إلى 29.7 مليارات دولار في حزيران 2019، ومحفظة السندات تراجعت من 7.4 مليارات دولار إلى 6.6 مليارات دولار. وعندما سألت غوبتا عن نتائج الهندسات المالية في تموز، أجابها مسؤول في مصرف لبنان، بأن الهندسات اجتذبت ملياري دولار، لكنها علّقت على الزيادة المتواضعة في الاحتياطات بقيمة 700 مليون دولار فقط، ما يعني خروج 1.3 مليارات دولار!

المستثمرين الأجانب لم يظهروا ثقة بكلام حمود عن احتمال تأجيل التصنيف


تلميحات فريق «ستاندر أند بورز» عن احتمال خفض التصنيف، عدا كونه تحوّل إلى شبه قناعة محلية، انتشر بين حملة الأسهم من صناديق استثمارية أجنبية ومؤسسات مالية أجنبية وافراد، ما دفع محلل غولدمان ساكس، فاروق سوسا، إلى التصريح علناً عن احتمال خفض التصنيف، مفجّراً موجة بيع سندات يوروبوندز تكبّدت بموجبها المصارف اللبنانية مبلغاً مقدراً بنحو 150 مليون دولار، لأنها استدانت من صناديق ومؤسسات مالية أميركية بضمانة السندات التي تحملها. فمع انخفاض الأسعار، باتت هذه المصارف مجبرة على تسديد فرق الانخفاض في السعر أو تصفية السندات.
المشكلة التي واجهت المصارف، أن تسديد مبلغ الـ150 مليون دولار خلال خمسة أيام، ليس متوافراً ضمن سيولة غالبيتها، لأن مصرف لبنان امتصّ الدولارات من المصارف وجفّف السوق منها حتى يتمكن من السيطرة على الطلب على الدولار. كذلك، كان مصرف لبنان يعاني من مشكلة في تسييل جزء من محفظة السندات. فبحسب مصرفيين مطلعين، عرض مصرف لبنان على صناديق استثمارية أجنبية قبل أسبوع، بيع سندات تستحق في 2037 بقيمة 72 دولاراً للسند الواحد، أي أقلّ من قيمته الاسمية المقومة بنحو 100 دولار، إلا أنه لم يتمكن من بيع هذه السندات. ما يعني أن حاجته للدولارات تزداد في ظل استنزاف احتياطاته وخروج الرساميل من لبنان، وما يعني أن قدرته على توفير الدولارات للمصارف أضعف مما كان عليه سابقاً.
رغم كل هذه المعطيات، إلا أن المستثمرين الأجانب لم يظهروا ثقة بكلام حمود عن احتمال تأجيل التصنيف، (يقال إن الحاكم سلامة أوعز إليه إجراء مقابلة للسيطرة على الهلع الذي ساد سوق سندات اليوروبوندز) ولم تشهد سندات اليوروبوندز إلا تحسناً متواضعاً جداً.



تأجيل التصنيف = ضغط أكبر
تتوقع مصادر معنية أن تزيد الضغوط على لبنان بنتيجة تأجيل التصنيف، على عكس ما يشاع، إذ إن الثمن السياسي الذي دفعه الحريري لهذا التأجيل، إذا حصل، سيدفع في اتجاه تأجيج الصراع المحلي على الإجراءات التي يجب اتخاذها في موازنة 2020، وعلى بعض الخطوات المتعلقة بترسيم الحدود البحرية، وسيتيح للمؤسسات الدولية التدخّل في تفاصيل المالية العامة وطبيعة النفقات والإيرادات، فضلاً عن أنها ستكون بمثابة عنصر ضغط متواصل على القوى السياسية وابتزازها سياسياً مع قرب انتهاء فترة السماح الموعودة.