تصنيف لبنان على المحكّ. ففي 23 آب المقبل ينتظر أن تصدر وكالة «ستاندر أند بورز» تصنيفها للبنان وسط توقعات بخفضه من درجة (-B) إلى (+CCC) ليصبح في مستوى «الخردة» مرّة ثانية بعد قيام «موديز» بخفضه في 21 كانون الثاني الماضي من درجة (B3) إلى (Caa1). خفض التصنيف الائتماني من وكالتي تصنيف دوليتين ستكون نتيجته «تدني الثقة» وفق كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس نسيب غبريل، فضلاً عن «ارتفاع كلفة الاستدانة من الأسواق الدولية». هذا الأمر يثير خشية واضحة لدى الخبراء من أن يصبح الدَّين العام خارج السيطرة، وهو أمرٌ يتماهى إلى حدّ كبير مع تلميحات التقرير الأخير للبعثة الرابعة في صندوق النقد الدولي، إلا أنها ليست الخشية الوحيدة. فما يخشاه رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله، «أن يستغلّ خفض التصنيف، إذا حصل، للدفع في اتجاه سياسات راديكالية لضرب القطاع العام وعرقلة خطوات إصلاحية ينبغي القيام بها».
محاولة بلا أمل
الشكوك بإمكان خفض تصنيف لبنان من قبل «ستاندر أند بورز» قائمة منذ قرار «موديز» بخفض التصنيف في مطلع السنة الجارية. رغم ذلك، كان هناك أمل بأن تتمكن الحكومة من إقرار موازنة 2019 سريعاً وتضمينها إصلاحات جذرية تدفع وكالات التصنيف إلى إعادة النظر في نظرتها «السلبية» لمسار الدَّين العام والعجز والتدفقات المالية. لكن مع تأخّر إقرار الموازنة، وفراغها من الإصلاحات المنتظرة، وتضمينها معطيات ملتبسة عن خفض خدمة الدين العام بقيمة 1000 مليار ليرة، بالإضافة إلى نفخ الإيرادات بشكل غير مقنع، وتقليص النفقات عبر تجميد دفع أوامر الصرف المقدرة بنحو ملياري دولار، وتأخّر إطلاق مناقصات معامل الكهرباء، وتدهور عجز ميزان المدفوعات بنحو متسارع، مترافقاً مع خروج رساميل من لبنان وتراجع التدفقات من الخارج، تسرّبت معطيات للمعنيين في رئاسة الحكومة ومصرف لبنان ووزارة المال عن ارتفاع احتمال قيام «ستاندر أند بورز» بخفض تصنيف لبنان إلى درجة (+CCC) بين آب وأيلول.

اتفق رئيس الحكومة ووزير المال وحاكم مصرف لبنان ووزير العمل على التواصل مع «ستاندر أند بورز» لإقناعها بالحفاظ على تصنيف لبنان الحالي (هيثم الموسوي)

إزاء هذه التطورات، تحدّثت مصادر مطلعة عن عقد سلسلة اجتماعات ثنائية وموسّعة شملت رئيس الحكومة سعد الحريري وفريقه الاقتصادي، ووزير المال علي حسن خليل، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ووزير العمل كميل بوسليمان، وخلصت إلى اتفاق على التواصل مع المسؤولة عن تصنيف لبنان في وكالة «ستاندر أند بورز» ذهبية غوبتا، لإقناعها بالحفاظ على تصنيف لبنان الحالي، أي عند مستوى (B3). «تبلّغ لبنان من الوكالة بأن تقرير التصنيف سيصدر في 23 آب من دون أن يزور فريق الوكالة لبنان، بل بالاستناد إلى اتصالات مع وزارة المال ومصرف لبنان»، وفق المصادر.

تبريرات غير مقنعة
تعامل لبنان مع الآلية التي اتبعتها الوكالة لتصنيف لبنان عبر «الاتصالات مع وزارة المال ومصرف لبنان» لا عبر زيارة فريق منها كما فعلت «فيتش» الأسبوع الماضي، على أنه مؤشّر سلبي. فكان الاتفاق على مراسلة «ستاندر أند بورز» لإقناعها بجدوى الخطوات التي يقوم بها لبنان على صعد الكهرباء (وزارة الطاقة)، المالية العامة (وزارة المال)، التدفقات المالية (مصرف لبنان).
عُقدت اجتماعات ثنائية وموسعة لإقناع ستاندر أند بورز بإبقاء التصنيف الحالي


تلقت الوكالة ثلاث أوراق لا تتضمن معطيات مقنعة بشكل حاسم، بل سرداً يمكن توقعه عن تطورات تطبيق خطّة الكهرباء وأثرها في المالية العامة (يفترض انخفاض التحويلات من الخزينة على المدى المتوسط)، وعن موازنة 2019 بما تضمنته من إجراءات تتعلق بخفض النفقات وزيادة الإيرادات. كذلك، حصلت الوكالة على بيانات نقدية ومالية من مصرف لبنان تبرّر انكماش ميزانيته بنسبة 7.6%، كما تحدّد أسباب تقلّص احتياطاته بالعملات الأجنبية نتيجة تسديد استحقاقات سندات يوروبوندز بقيمة 2.3 مليار دولار عن الدولة اللبنانية. أيضاً، تشير ورقة مصرف لبنان إلى عودة التدفقات إلى الارتفاع بقيمة 650 مليون دولار خلال النصف الأخير من الشهر الماضي (بعد بدء الهندسات الأخيرة التي رفعت أسعار الفائدة إلى 14.3% على الودائع بالدولار المجمدة لثلاث سنوات)، وذلك بعد تراجع ودائع غير المقيمين بقيمة 2.1 مليار دولار. ولحظت الورقة ارتفاع نسب الملاءة المالية لدى المصارف إلى 16%، أي أعلى من النسب المطلوبة بحسب المعايير المحاسبية الدولية…
ليس هناك من يعتقد أن وقائع ومعطيات كهذه قد تقنع «ستاندر أند بورز» بالعدول عن موقفها من تصنيف لبنان. إذا كانت قد حسمت قرارها، «فمن المرجح أن تخفض الوكالة التصنيف»، تقول أوساط مطلعة على التواصل مع «ستاندر أند بورز». وتضيف أن الأوراق المرسلة من الأطراف الثلاثة في لبنان «مخيبة للآمال إلى حدّ ما». بمعنى آخر، لا يمكن الجزم بأن خفض «ستاندر أند بورز» لتصنيف لبنان بات قراراً محسوماً، بل هو خيار وارد جداً.

المصارف والاستغلال
على فرض أن خفض التصنيف بات واقعاً، فما هو أثره وتداعياته؟
يقول غبريل إن «المصارف ستكون أول المتأثرين بخفض التصنيف، لأنه يرتّب عليها مؤونات إضافية». بحسب بعض التقديرات، إن المؤونات الإضافية على المصارف تصل إلى 1.5 مليار دولار. كذلك يشير غبريل إلى أن خفض التصنيف «سيرفع كلفة الاستدانة»، إلا أنه يشير إلى أن هذا الارتفاع في كلفة الاستدانة نظري، لأن «الكلفة مرتفعة أصلاً بعدما ارتفعت أسعار الفوائد خلال الأشهر الماضية»، لكنه يعتقد أن الكلفة الإضافية تكمن في «الإصدارات الجديدة لسندات اليوروبوندز، لأن خفض التصنيف يضرب الثقة»، فضلاً عن أن خفض التصنيف «قد يدفع حاملي السندات إلى تصفيتها وبيعها».

الخوف من أن يستغل خفض التصنيف من أجل ضرب القطاع العام


وإلى جانب هذه النتائج، يعتقد فضل الله أن خفض التصنيف سيلغي المفاعيل الإيجابية التي كان يفترض أن تتأتى عن انخفاض أسعار الفائدة الأميركية الذي ينعكس مباشرة على أسعار الفائدة المحلية على الودائع بالدولار في لبنان. لكن الأهم بالنسبة إلى فضل الله، هو ما بعد خفض التصنيف. «أخشى أن يستفيد البعض من خفض التصنيف، إذا حصل، بهدف عرقلة خطوات إصلاحية ينبغي القيام بها، أو للدفع في اتجاه خطوات أخرى لا ينبغي القيام بها، أي أن يستفاد من ذلك لفرض أجندة سياسة راديكالية لضرب القطاع العام. ليس المهم أثر التصنيف على المستثمرين والتدفقات بمقدار كيفية التعامل الداخلي معه والبناء عليه».
هذه النظرة من فضل الله مستندة إلى مسار طويل من التجارب الصعبة والمحطات التي تجاوزها لبنان. «يجب ألّا ننظر حصراً إلى اللحظة التي يمكن رؤية مسارها منذ سنوات. وضعُنا اليوم بالسوء نفسه الذي كان عليه في السنة الماضية، ولم يتغيّر شيء في المعطيات المالية والاقتصادية الجوهرية من صعوبة اجتذاب الأموال والعجز المالي وغيرها… وبهذا المعنى، إن خفض التصنيف ليس عبارة عن وقائع جديدة، بل هو عبارة عن مسار يفترض أن تكون وكالات التصنيف قد لحظته منذ سنوات، وإذا حصل الأمر، فإن كلفة منع الانهيار ستزداد».



تصنيف «فيتش» قريباً
يوم الجمعة الماضي، أنهى فريق وكالة التصنيف «فيتش» مهمة تصنيف لبنان الدورية. سأل الفريق عن تدهور ميزان المدفوعات، وعن خطة الكهرباء وتطبيقها، وعن جدوى الإجراءات المتخذة في موازنة 2019، وعن قراءة لبنان لتقرير البعثة الرابعة في صندوق النقد الدولي، وعن الضغط الذي يخضع له مصرف لبنان بسبب توقف التدفقات النقدية من الخارج واستمرار هروب الأموال. الانطباع الذي تركه فريق فيتش، أنه لن يذهب في اتجاه خفض تصنيف لبنان، إلا أنه ليس مقتنعاً بالكثير من المسائل المطروحة والمتعلقة بالإصلاحات المالية. هذه الوكالة، مثلها مثل صندوق النقد وباقي الوكالات، تطالب بحلّ كلاسيكي للأزمة المالية في لبنان، يكمن في تقليص النفقات وزيادة الإيرادات عبر مجموعة جديدة من الضرائب تطاول الفقراء ومتوسطي الدخل.


«موديز»: أدوات احتواء الدين محدودة
في 21 كانون الثاني الماضي، أصدرت وكالة «موديز» تقريراً عن لبنان خفضت بموجبه تصنيف لبنان من درجة (B3) إلى (Caa1) بالاستناد إلى حساباتها عن ارتفاع نسبة المخاطر في لبنان التي تزيد من احتمالات التخلف عن سداد الدين. بمعنى آخر، ترى «موديز» أن قدرة الحكومة على احتواء الدَّين العام باتت محدودة وسط تدهور ظروف التمويل الخارجي (التدفقات الرأسمالية من الخارج إلى لبنان)، مشيرة إلى أن الحكومة تملك أدوات مالية ونقدية محدودة لاحتواء أو عكس عبء الديون والفوائد المرتفعة.