ليس وليد جنبلاط اكبر نظرائه السياسيين سناً، مع انه يدخل في 7 آب العقد السابع، بيد ان انخراطه باكراً في اللعبة، لـ42 سنة خلت، اتاح له ليس ان يكون حاضراً في العهود المتعاقبة منذ عام 1977، غداة ارتدائه عباءة زعامة المختارة بعد اغتيال والده كمال جنبلاط. رافق الرجل مذذاك 8 رؤساء للجمهورية، و3 رؤساء للبرلمان، و10 رؤساء حكومات ترأسوا 23 حكومة، ناهيك بمواكبة رئيسين سوريين ما دامت سوريا «خدمت» في لبنان 29 عاماً، هي ثلثا العمر السياسي لجنبلاط.مع ان الرجل لم يدخل في الحكومة، للمرة الاولى، سوى في خامستها التي تزامن معها (1984)، الا انه كان في صلب المعادلة السياسية المتقلبة، سبقه اليها الجميّل، ثم انضم اليهما الرئيس نبيه برّي عام 1980 كي يصبح بدوره في صدارة الحدث.
على مر عقوده السياسية الاربعة، نُظر الى جنبلاط دائماً على انه الحاجة الضرورية لكل عهد. لذا كان الاكثر تدليعاً مع كل الرؤساء تقريباً الذين إما قرّبوه منهم، او تقرّبوا منه، او صالحوه ووزّروه رغم انقلابه عليهم، او جاروه في كل الامتيازات التي راح يطلبها بلا ارتواء، او عادوه من غير ان ينكروا عليه انه الاكثر ايذاء لهم بين السياسيين الآخرين. هذا الرجل، بكل الثقل السياسي السياسي منذ النصف الثاني من السبعينات، وصاحب امارة درزية منذ النصف الثاني من الثمانينات، الساخر من اتفاق الطائف الا انه صاحب الحظوة الكبرى فيه قرابة عقد من الزمن قبل ان يتدرّج عداؤه للسوريين من مطلع عام 2000 حتى ما بعد مغادرتهم لبنان رغم انه دان لهم بإمارته ومكانته الاستثنائية في الحكم... هذا الرجل يختصر اليوم مجمل المرحلة غير المسبوقة التي تعبر بها الحياة السياسية اللبنانية منذ تسوية 2016.
في جانب من الاعتقاد بهبوط الدور يُسأل عنه هو، وفي جانب آخر يُسأل عنه شريكا التسوية تلك الرئيسان ميشال عون وسعد الحريري.
منذ عام 2009، بعد مغادرته قوى 14 آذار، اخذ جنبلاط يتحدّث عن رغبته في نقل خلافة الزعامة الى نجله تيمور، بيد انه لم يفعل سوى في عام 2018. مع ذلك لم يورثه سوى مقعده الدرزي في الشوف والتواصل اليومي مع ناخبيه. الا ان زعامة المختارة ظلت عند الاب الذي اراد مغالبة القدر في هذا الانتقال، فتكون على الحياة لا متشحة بالحداد كما حدث في التاريخ. ما فعله كمال جنبلاط عندما اضحى نائباً للمرة الاولى عام 1943 خلفاً لصهره حكمت، فرضه ثنائية زعامة المختارة بينه ووالدته الست نظيرة حتى غيابها عام 1951، ثم اضحى من بعدها زعيمها الاوحد. دور كهذا لم يسع تيمور، وإن في اكثر من سنة منصرمة من تدرجه البطيء في علاقته مع الناس، ان يضطلع به. ظلّ الزعيم الاصل، الاب، في الصدارة.
في السنوات الثلاث المنصرمة، هي عمر ولاية عون، لم يعد احد يثير الكثير من علامات الاستفهام عن سبب الضمور التدريجي لتدخّل جنبلاط في اللعبة السياسية على نحو يمكّنه من تعطيلها. كان يكفي الرجل، ابان ولاية الرئيس الياس هراوي، ان يعترض او يلوح وزراؤه وليس هو بالاستقالة كي تقع ازمة في البلاد. وهو ما حصل. كان لديه من الدور ما يكفي كي تنحاز دمشق الى الرئيس اميل لحود في خلافاتهما، ويُضطر الرئيس رفيق الحريري الى مداراتهما، وإدارة الظهر قليلاً في العلن لجنبلاط. من دونه ما كان 7 ايار 2008 ليحدث، ولا انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. قبل ذلك، لم يجرؤ احد على رفع العلم الفرنسي في المختارة بعد صدور القرار 1559 وفي عزّ المواجهة الغربية - السورية. من دونه ايضاً لم يكن للوزراء الثلاثة في حصة سليمان طوال عهده ذا مغزى لولا تحالفه مع جنبلاط، اذ اضحى بدوره ما راج حينذاك «بيضة القبان»، بين وزراء 14 آذار و8 آذار. وحدها إبرته ترجّح الكفة.
على ان السجل التاريخي للرجل، مذ قاد قوى 14 آذار عام 2005 وكان في واجهة الاشتباك مع سوريا وحزب الله في آن، قبل ان يتراجع ويصالح الاولى ويهادن حتى البارحة الثاني، يطرح السؤال الذي لا جواب عنه بعد. او في احسن الاحوال لم يقل الزعيم الدرزي ان لديه جواباً: هل فقد هذا البيت امتيازاً تاريخياً كانت تتطلبه منه العهود جميعاً، ايام والده وايامه هو: ان يكون حاجة اليها، سواء التي والاها او تحتاج الى عدائه كي تقوى.
بعد 42 عاماً في اللعبة، لم يعد الرجل قادراً على فرض لاءاته


في المرحلة الاخيرة، لم تعد قليلة الاهمية بضع ملاحظات:
1 - ما خلا برّي، يكاد جنبلاط بلا حلفاء. بلا ظهير محلي كان يمثله له في الغالب رئيس الدولة: الرئيس الياس سركيس قبل اتفاق الطائف وهراوي وسليمان بعده. بلا ظهير اقليمي كما ياسر عرفات في سبعينات القرن الفائت، وسوريا في العقدين التاليين، والسعودية ما بين عامي 2005 و2009. بلا حليف سنّي شأن ما كان عليه مع الحريري الاب. بيد انها المرة الاولى، اخيراً ومنذ انتخابات 2018، يتحوّل الحليف السنّي التاريخي عبئاً ثقيلاً: الحريري الابن يتنزع اقليم الخروب من المختارة، بعدما اعتاد ولاؤه التاريخي على جنبلاط الاب وشمعون.
2 - منذ تسوية 2016 بات اشبه بمحاصر في طائفته: رئيس الجمهورية وراء صعود طلال ارسلان بغية اعادة تكريس ثنائية كانت واهية في الحقبة السورية تقتصر على مقعدين نيابي ووزاري بالكاد لارسلان، لكن بلا شارع درزي مقابل. اليوم قبالته شارعان درزيان - وإن بتفاوت - احدهما لارسلان والآخر لوئام وهاب. لعلّ صدامات الشارع بين الثلاثة خير معبّر عن واقع جديد لم تسلّم به المختارة يوماً.
3 - لم تعد ارض الشوف وعاليه جنبلاطية كما منذ حرب الجبل. اول ثمار تسوية 2016 ان دخل، للمرة الاولى منذ انتخابات 1992، شريك مسيحي فاعل مؤثر ومشاغب يسترد الثنائية التقليدية المارونية الدرزية في جبل لبنان الجنوبي. في انتخابات 2018، بتنافس لم تغلفه ترضية او هدية - كإنابة جورج عدوان في الشوف ثلاث مرات - تمكن التيار الوطني الحر من ان يصبح شريكاً فعلياً في التمثيل السياسي والنفوذ والتضييق حتى. اكثر من ذلك، اضحى عون معنياً بتحديد الحصة الدرزية، ثم لاحقاً بالوزير الدرزي الثالث الذي يأتي به.
4 - مع ان جنبلاط نادراً ما يثق بحليف مسيحي، بيد ان تحالفه المستجد مع القوات اللبنانية منذ ما بعد 2005، اظهر حاجتها اليه اكثر منه حاجته هو اليها. ليست القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع اليوم في حال افضل من جنبلاط. مطوقة بدورها، بلا حلفاء مؤثرين، داخل الحكم من غير ان تمتلك فيتو. رغم كتلتها النيابية الكبيرة بثلاثة اضعاف انتخابات 2009، لا تزال تستنجد بالحريري للحصول على حصة في التعيينات الادارية. جعجع بذلك - كجنبلاط وإن في منزلة ادنى - ضحية اخرى لتسوية 2016، رغم مفاخرته بأنه احد رعاتها. لم يعد احد، لا عون لا الحريري، في حاجة الى شراكة الاثنين معاً لهما في معادلة تسوية 2016.