على أجندة الإدارة الأميركية، ملف يُجاور الملفات الحسّاسة في منطقة الشرق الأوسط، هو ملف الترسيم البري والبحري بين لبنان و «إسرائيل». وأما طريقة مقاربته (التي عبّر عنها كِبار الموفدين الأميركيين أخيراً، واختلفت عن طريقة أسلافهم) فيُراد منها ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، الأسمن بينها، ورقة يقدّمها فريق دونالد ترامب كإنجاز تحت عنوان «التفاوض الإسرائيلي ـــ اللبناني باعتباره خطوة أولى نحو السلام». بهذه البساطة، اختصَر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إجابته عن سؤال طرحه مسؤولون لبنانيون عليه في معرِض استفسارهم عن الموقف الأميركي المستجد والمرونة التي أبداها هو ومساعدوه خلال زياراتهم للبنان (22 آذار 2019). لم يتأخر الفريق اللبناني الذي سمِع الجواب في نقله إلى أصحاب الشأن، وزادَ عليه شعوراً بأن بومبيو نفسه يُريد أن يكون جزءاً من الطبخة، إذ يهيّئ نفسه للترشح لمركز سيناتور في مرحلة لاحقة.
(هيثم الموسوي)

بناءً على ذلك، بدأ فكّ اللغز الذي يقِف وراء شبه الاستدارة الأميركية والعودة عن السقف العالي للشروط التي رماها ساترفيلد وزملاؤه في وجه المعنيين بهذا الملف في لبنان، من دون إغفال الأطماع الأخرى التي تصبّ في مصلحة العدو الإسرائيلي، وخاصة أن الفترة التي سبقت زيارة بومبيو لبيروت (والتي بدأ معها الخيط الإيجابي بالظهور) تخللتها عدّة أحداث أكدت أن بعض الأطراف اللبنانيين كانوا مؤيدين للأفكار الأميركية لجهة فصل الترسيم البرّي عن البحري، يتقدمهم رئيس الحكومة سعد الحريري. وتبيّن لاحقاً أن هؤلاء الأطراف يريدون «الإمساك بمفاصل هذا الملف وتولّي التفاوض مع الجانب الأميركي وفقَ ما يريده الأخير، لتقديمه كهدية لصهر ترامب جاريد كوشنر الذي وعَد بمُقابل ينعش الاستثمار». هذا ما كشفته مصادر مطلعة أكدت أن «انتقال الملف الى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، واعتماده من قبل الجانب الأميركي كمرجع للمباحثات، أغضبا هؤلاء الأطراف اللبنانيين، لكن لم يكُن بإمكانهم إظهار اعتراضهم، لا سيما أن برّي استطاع انتزاع موافقة أميركية على الآلية التي وضعها لبنان للقبول بالتفاوض، على أن يتولى الموفدون الأميركيون نقل الشروط اللبنانية الى تل أبيب والعودة بإجابات عنها». وفيما أعادت المصادر تأكيد «قبول العدو ببعض البنود، من التلازم بين البحر والبرّ وبدء التفاوض برعاية الأمم المتحدة وضيافتها بحضور وسيط أميركي»، يبقى بند «المهلة الزمنية التي يريدها لبنان مفتوحة وتريدها إسرائيل محددة بستة أشهر».
وفيما كان من المفترض أن يعود نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد إلى بيروت لنقل موقف إسرائيل ممّا يتعلق بهذه النقطة، بعد أن زار لبنان منذ أسبوعين والتقى كلاً من رئيسي الحكومة ومجلس النواب ووزير الخارجية، «غاب الرجل وقال عدّولي»، طرأ تطوّران مهمان تمثلا أولاً في تغيرات الداخل الإسرائيلي والدعوة الى انتخابات في أيلول المقبل، وثانياً في الإعلان عن تعيين مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن، ديفيد شنكر، رسمياً، في موقع مساعد وزير الخارجية الذي كان يشغله ساترفيلد بالوكالة.
ومنذ ذلك الحين، بدأ القلق الجدّي يساور المعنيين بملف التفاوض، وبدأت الأسئلة حول مدى انعكاس هذين التطورين على مسار التفاوض ومجمل ما بلغته المحادثات. فالمسؤول الجديد الذي سيرث إدارة الملف من ساترفيلد يعتبر من أكثر المطلعين على الملف اللبناني ومعروف عنه وقوفه إلى جانب المصالح الإسرائيلية. ومع أن الانحياز صفة ملازمة لأغلب المسؤولين الأميركيين، الا أن شنكر يعتبر من أقرب المقرّبين لكيان العدو ومن المتشدّدين جداً في دعمه. ولا يمكن مع شخص مثله أن تستمر الولايات المتحدة في ادّعاء الحياد المصطنع مع لبنان، بحسب المصادر، التي تخوّفت من أن يعقّد «التفاوض على آلية التفاوض»، ويعيد الأمور الى النقطة الصفر.
شنكر يعتبر من أقرب المقرّبين لكيان العدو ومن المتشدّدين جداً في دعمه


وفي انتظار ما ستحمِله الأيام المقبلة على صعيد هذا الملف، وعودة الموفد (أياً يكُن، ساترفيلد أو شنكر)، تتركزّ الأنظار على التعديات التي تقوم بها «إسرائيل» جنوباً على الحدود البرية قرب رأس الناقورة، لجهة إنشاء جيش الاحتلال برجاً للمراقبة داخل منطقة «متحفّظ عليها» لبنانياً (أي إنها أراضٍ تعتبرها الدولة أرضاً لبنانية)، إذ نقلت المصادر ذاتها «استياءً من عدم تحرّك الدولة حتى الآن في وجه التحركات الإسرائيلية»، وهو ما استدعى «إجراء اتصالات مع القيادات المعنية لاتخاذ الخطوات المناسبة». وفي هذا الإطار، علمت «الأخبار» أن قيادتي حزب الله وحركة أمل ناقشتا الأمر، وعبّرتا عن انزعاج واضح ممّا يحصل في مقابل تقاعس الدولة عن القيام بواجبها، علماً بأن «التحركات الإسرائيلية، وفي حال لم تقابل بأي ردّ، قد تصل إلى حدّ بناء جدار جديد تماماً كالجدار الاسمنتي الذي استكملته إسرائيل في المناطق المتحفّظ عليها لبنانياً، باعتبارها محتلة، وخسّر لبنان ورقة تفاوض قوية». وبحسب المعلومات، فإن القيادتين اتفقتا على إثارة الموضوع وإجراء الاتصالات اللازمة مع رئيسي الجمهورية والحكومة من أجل انعقاد المجلس الأعلى للدفاع واتخاذ توجهات حاسمة ومنعها من فرض أمر واقع برّي جديد لا شكّ في أنه سينعكس سلباً على الترسيم البحري.