قبل 23 عاماً، شنّ العدو الإسرائيلي عدواناً واسعاً على لبنان استمر 16 يوماً، لإجبار المقاومة على وقف عملياتها ضد جنود الاحتلال في ما كان يُعرف بالحزام الامني. صمود حزب الله ونجاحه في الحفاظ على وتيرة متواصلة ومؤلمة من الاستهداف الصاروخي للمستوطنات الشمالية، واحتضان الرئيس حافظ الاسد في حينه لخيار التصدي للعدوان، بدّد رهانات العدو، وأجبره على التسليم بالمعادلة التي فرضتها المقاومة تحت اسم «تفاهم نيسان»: امتناع الحزب عن قصف المستوطنات الشمالية، مقابل توقف إسرائيل عن استهداف المناطق المدنية في لبنان. انتزع حزب الله بموجب ذلك تسليم العدو والدول العظمى بحق المقاومة في مواصلة عملياتها ضد جنود العدو في الاراضي اللبنانية المحتلة.أهمية تناول هذه المحطة تصب في أكثر من اتجاه. من جهة، فَهْمُ أحد أهم العوامل التأسيسية لتحرير الجنوب عام 2000. ومن جهة أخرى، فهم الدور التأسيسي لمقاومة حزب الله في إحداث تغيير مفاهيمي في العقيدة العسكرية لجيش العدو.
من أبرز ما تميزت به مقاومة حزب الله في تلك المرحلة تصميمها على مواصلة عملياتها في ذروة الرهان على التسوية السلمية، حتى بدت أنها تجري بعكس الرياح الاقليمية والدولية. كشف هذا التصميم عن ادراك عميق لحجم التهديد الذي يمثله الاحتلال، وأنه يتجاوز في مفاعيله المساحة التي كان يحتلها.
اعتاد المراقبون للشأن الاسرائيلي أن يتناولوا مبادئ العقيدة الامنية الاسرائيلية المعروفة بـ«عقيدة بن غوريون»، والتي تبلورت في خمسينات القرن الماضي واستندت الى ثلاث ركائز: الردع والانذار والحسم. وأضيفت اليها بعد حرب العام 2006، ركيزة الدفاع عن الجبهة الداخلية. إلا أن هناك مبادئ أخرى في العقيدة الامنية الاسرائيلية تمت بلورتها في المرحلة نفسها، عُرفت بعقيدة موشيه ديان، تستهدف التعامل مع تهديدات غير دولتية وفي مواجهة حركات المقاومة. واستندت الى «جبي أثمان مؤلمة لدمنا» من المقاومين والمدنيين ومن جهات دولتية (جيش، منشآت، مؤسسات...). كان الرهان الاساسي لهذه العقيدة بأن تؤدي الى تحقيق الردع بالتراكم. ووقد ترجمها العدو على المستوى العملي، في خمسينات القرن الماضي، ردا على عمليات الفدائيين بارتكاب المجازر ضد القرى الفلسطينية... وايضا في مواجهة الاردن ومصر.
الخصوصية التي تتسم بها الاخطار المحدقة بلبنان، لا تنطلق حصراً من تمتع العدو بقدرات تدميرية هائلة وتفوق تكنولوجي وعسكري هائل، وانما ايضا من «الضعف التكويني» للبنان بما يغري اعداءه بالرهان على إخضاعه و«التهامه».
على المستوى العملي، لجأت اسرائيل الى العقيدة نفسها في مواجهة عمليات المقاومة، عبر استهداف القرى والمدن في الجنوب والبقاع وصولا الى الضاحية الجنوبية، ما شكَّل عبئاً على المقاومة ولبنان. في مواجهة هذا التحدي، أتى ابداع حزب الله لمعادلة الصواريخ التي فرضت ردعا كبح العدو عن التمادي في اعتداءاته ضد المدنيين. وهي ارتكزت الى الرد على استهداف العدو للمدن والقرى اللبنانية، بدك المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة. وعندما فشلت اسرائيل في كسر هذه الحلقة، لم تجد سوى التسليم بها، ما مهد الارضية لمواصلة المقاومة عملياتها التي كان تستهدف جنود الاحتلال، وصولا الى التحرير.
كان للمواجهات التي خاضها حزب الله في مواجهة جيش العدو منذ تسعينات القرن الماضي، وبشكل اساسي في مواجهة عدوان «عناقيد الغضب» في نيسان 1996، دور مفصلي ايضا في التأسيس لمفاهيم جديدة اخترقت العقل الامني الإسرائيلي. وتجلى ذلك على المستوى الرسمي وبألسنة وأقلام كبار الخبراء العسكريين في اسرائيل.
فهم معادلات الردع سيبقى ناقصاً من دون العودة الى المحطات التأسيسية في تسعينات القرن الماضي


وممن تناول مفاعيل تلك المرحلة على العقيدة الامنية الاسرائيلية، الباحثان في معهد ابحاث الامن القومي في تل أبيب يهودا بن مئير والجنرال غابي سيبوني، في دراسة نصت على أنه «في تسعينات القرن العشرين كان واضحاً أن هناك حاجة لبلورة نظرية أمن قومي محدثة لاسرائيل» (العلاقة بين نظرية أمن قومي محدثة وبين استراتيجية الجيش/ اب 2016). ولفتت الدراسة الى محاولتين رسميتين لبلورة هذه النظرية. الاولى خلال سنوات 1997 - 1999، بعد سلسة محطات مفصلية في مواجهة حزب الله: اغتيال أمينه العام السيد عباس الموسوي عام 1992، عدوان «تصفية الحساب» عام 1993، عدوان «عناقيد الغضب» عام 1996. وبادر اليها في حينه وزير الامن اسحاق مردخاي. لكن هذا المسار لم يُستكمل بسبب التحولات السياسية التي شهدتها اسرائيل في حينه (استقالة مردخاي، وانتخابات مبكرة ادت الى سقوط نتنياهو وفوز ايهود باراك عام 1999).
المحاولة الثانية تمثلت بلجنة مريدور التي شكلها في حزيران 2004 وزير الامن في حينه شاؤول موفاز، بمصادقة رئيس الوزراء ارييل شارون. وأنهت عملها في نيسان 2006. ولفت الباحثان الى أن استراتيجية الجيش التي تم اعلانها في 2015، استندت الى عمل هذه اللجنة.
يتجلى بوضوح الدور الذي لعبه حزب الله ايضا في أن يفرض على جيش العدو التخلي عن رهانات وخيارات عسكرية، والعمل على اعادة انتاج عقيدته العسكرية بما يتلاءم مع مستجدات الصراع. الحقيقة الأخرى التي ينبغي أن تبقى حاضرة، أن الاهداف التي فشلت اسرائيل في تحقيقها من خلال حرب 2006، بدءا من سحق حزب الله، مرورا بتعزيز مكانتها الاستراتيجية في مواجهة الجبهة الشمالية، وصولا الى تمهيد الطريق أمام فرض الهيمنة الاميركية على المنطقة، كانت وما زالت مطلباً ملحاً في تل ابيب وواشنطن. وأي محاولة لفهم معادلات الردع التي حالت دون تحقيق هذه الامال، ستبقى ناقصة من دون العودة الى المحطات التأسيسية في تسعينات القرن الماضي، مرورا بتحرير العام 2000، وانتصار 2006. أهمية استحضار هذه الحقيقة تنبع من أن معادلات الردع التي نجح حزب الله في مراكمتها ليست بين دولتين تتناسبان في قدراتهما ومزاياهما الاستراتيجية. وإنما بين كيان إقليميّ يحظى بدعم مطلق من الدولة العظمى في العالم، الولايات المتحدة، ويملك قدرات عظمى على المستويين العسكري والتكنولوجي، وبين حركة مقاومة. وبالتالي، لم تكن إسرائيل لتسلّم به وتتكيف معه، إلا بعد أن تكتشف بالتجربة العملية، فشلَها وعجزها عن اجتثاث السد الذي يقف بوجه أطماعها ومحاولات فرض هيمنتها، والولايات المتحدة، على المنطقة.