كما كان متوقعاً، وفي تماشٍ مع حرب العقوبات الأميركية على حزب الله ومحور المقاومة، استؤنفت الكتابات عن الحرب الإسرائيلية المقبلة، وقرب نشوبها والترويج لأرجحيتها.هذه المرة، أُشركت الولايات المتحدة طرفاً مباشراً في الحرب، مع كثرة أسئلة يفترض، وقبل الإجابة عنها، أن تشير إلى قرب الحرب ورجحانها: هل العقوبات مقدمة للخيار العسكري؟ وإن لم تكن كذلك، فهل الحرب مقبلة، إن لم تُجدِ العقوبات نفعاً؟
يتساوق ذلك مع تقارير عربية وغربية، أشارت إلى أن الولايات المتحدة غير راضية عن تنفيذ القرار 1701 و«تلكؤ» اليونيفيل و«تقصيرها»، بما يشمل تطبيق مواد واردة في القرار "تحظر" وجود حزب الله في الجنوب اللبناني، إضافة إلى عدم رضاها عن مواصلة تدفق السلاح إلى الحزب، خلافاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، ومن بينها القرار 1559. أما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، فيطالب لبنان بنزع سلاح حزب الله، بعدما باتت في حوزته ترسانة هائلة من الوسائل القتالية.
هي حملة ضغوط لا تقتصر على مقال من هنا أو هناك، ويشارك فيها الخصوم وبعض المؤيدين، وفي الدرجة الأولى العدو وأتباعه، لإعادة إنتاج قلق لدى بيئة المقاومة إزاء الآتي من الأيام، ما يدفع تل أبيب إلى الأمل أكثر في تحقيق نتيجة الخيارات غير العسكرية ضد حزب الله، وتحديداً تعزيز سلاح العقوبات الأميركية وتأليب بيئته عليه.
بالطبع لا يتساوى كل كتبة الحرب في الدوافع. فلدى البعض تساؤلات قد تكون مشروعة حسب نظرتهم للقدرة الأميركية والإسرائيلية التي يرونها مطلقة، والتي وصلت لديهم إلى مستوى كيّ الوعي، والى درجة تأويل أي فشل أميركي أو إسرائيلي بوصفه خياراً أميركياً أو إسرائيلياً مقصوداً لم تُدرَك أسبابه ونتائجه بعد.
لكن ما يتعلق بالكتبة الآخرين، يصعب استبعاد تماهي كتاباتهم مع مقاصد إسرائيل وأهدافها ضد المقاومة، وتحديداً في مرحلة خيار تعزيز العقوبات الأميركية، وحاجة العدو إلى استعجال نتائجها و«تسليكها» في وعي جمهور حزب الله، عبر التهويل بما سيليها.
في الخلفية، وهي الأساس في تحليل الآتي مهما كانت كتابات الحرب منمقة، يجب أن يكون حاضراً لدى تحليل إمكانات الحرب، أن حرب عام 2006 لم تكن مجرد حرب إسرائيلية فاشلة، بل هي حدث مفصلي في مسار الصراع مع العدو، أعادت تظهير حقيقة موازين القوة. وهي لا ترتبط حصراً بالميزان العسكري المباشر، بل أيضاً في فهم حظوظ القوة العسكرية مهما كانت إمكانات إسرائيل المادية.
الحرب ونتيجتها، جعلتا من إسرائيل أقل غطرسة وأكثر «اتزاناً»، وهذه هي أهم نتيجة لها إلى جانب فشلها. وإذا كان خيار الحرب ما قبل عام 2006 خيار تل أبيب الأصيل، إلا أنه بات بعد الحرب، خياراً أخيراً. وعلى هذه الخلفية، بات هذا الخيار مستبعداً. لم تقتصر نتائج تلك الحرب على فشل تحقيق أهدافها في اجتثاث حزب الله، بل دفعت إلى إعادة التفكير بجدوى الخيارات العسكرية نفسها.
وفي الحرب الماضية، ثبت الآتي:
يتعذر على الحرب العسكرية التي تدار عن بعد، بمعنى الحرب الجوية، أن تحقق هدف اجتثاث الأعداء والتهديدات (حزب الله)، مهما كانت شدة هذه الحرب وقدرتها على الإيذاء.
يتعذر على الحرب التي تدار أيضاً عن بعد، وإن جاءت مصحوبة بهجوم بري محدود وخاطف، تحقيق أهداف الحرب، وإنهاء الوجود المادي لحزب الله.
يمكن الجدال في إمكان الانتصار في الحرب المقبلة، إن كانت في أساسها حرباً برية واسعة النطاق، بمعنى احتلال كل الجغرافيا اللبنانية، حيث بيئة حزب الله الحاضنة وقواعده الشعبية. أي احتلال طويل الأمد يمكّن الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات من العمل جنباً إلى جنب لإنهاء التهديد، مع ضرورة استمرار الاحتلال لمنع قيام هذا التهديد من جديد.
في مقابل ذلك، على إسرائيل أن تتحمل كلفة هذه الحرب بشرياً ومادياً، كما عليها تحمّل الاستنزاف اللاحق لها بعد سيطرتها البرية، إضافة إلى استهلاك مواردها في خدمة الاحتلال، بمعنى إعادة إنتاج مشهد قديم عانت منه طويلاً في الساحة اللبنانية: العودة الى المستنقع اللبناني.
عدوان 2006 أكد أن الحرب الجوية لا يمكن أن تحقق هدف «اجتثاث الأعداء والتهديدات»


ما دون ذلك، أي الحرب على شاكلة حرب عام 2006، تؤدي، في أعقابها، إلى إعادة إنتاج التهديد بحجم ونوع أعظم مما كان عليه، على نقيض الهدف الذي خيضت لأجله.
وعندما يقال، ومن بين من يقولون إسرائيل نفسها، إن الحرب متعذرة، فالمقصود التعذر المبني على الحذر من الوقوع في الأسوأ، نتيجة الحرب وخلالها. ولا يعني التعذر عدم امتلاك القدرة المادية والوسائل القتالية لدى إسرائيل للبدء بالحرب.
في الموازاة، بات لدى حزب الله قدرة إيذائية هائلة قياساً بما كان لديه عام 2006، الأمر الذي يزيد من إبعاد قرار الحرب، ليس تلك الواسعة وحسب، بل وما دونها من تبادل ضربات محدودة، أو ما تُطلَق عليه تسمية «أيام قتالية».
وإن كان لجوء إسرائيل إلى الخيارات البديلة غير العسكرية في مواجهة حزب الله، في مرحلة ما قبل حرب عام 2006، يأتي في سياق الحرب نفسها، أي إمكان اللجوء إلى الحرب في حال فشل بدائلها، إلا أن اللجوء إلى هذه البدائل ما بعد 2006 وإلى الآن، هو نتيجة قرار الابتعاد عن الخيار العسكري والحروب، التي ثبت تعذر تحقيق نتائجها. الفرق شاسع جداً بين الوضعين، ويصعب تحليل الآتي من أفعال إسرائيل، في الساحة اللبنانية تحديداً، من دون استحضار النتيجة العملية للتفريق بينهما.
في آخر البدائل عن الحرب الإسرائيلية المقبلة، بعد فشل الرهان على الحرب السورية، هو الابتعاد العملي عن لبنان أكثر من السابق، وإن كان إشغاله بالتهديد والتهويل والعقوبات لا يزال قائماً.
الابتعاد شرقا إلى إيران، للضغط عليها وتعزيز حصارها اقتصادياً، في مسعى جديد قديم لتأليب الإيرانيين على دولتهم، وهو مسار يبدو أنه سيكون تصاعدياً إلى أقصى حد ممكن أميركياً، وإن كان اللايقين مصاحباً للخيار العقابي والحصار في الحالة الإيرانية، ودون نتائجه عقبات.
وكيفما اتفق، على تلك الحرب التي يحكى عنها أن تنتظر ــــ في حال الإصرار على عدم استبعادها ــــ نتيجة الضغط الاقتصادي واستعاره ضد إيران، أي أن لا تستبق إسرائيل النتيجة وتشوّش عليها عبر «الحرب الإسرائيلية المقبلة».
لكن ما بين الحرب والتهويل بها فرق كبير في سياق المواجهة التي تعتمد البدائل غير العسكرية. والكتابات التهويلية جزء أساسي من تلك البدائل، وهي ضرورة لا تفارق خيار العقوبات والضغط الاقتصادي، ويؤمل أن يكون تأثيرها كبيراً على بيئة المقاومة نفسها.
هل هذا يعني انتفاء الحرب بالمطلق؟ واضح أن الإجابة هي «لا» كبيرة جداً. لكن في الوقت نفسه، الحرب ليست قراراً سهلاً ودونها كثير من الموانع. وهذه الموانع، ــــ كما بات ثابتاً ــــ لم تتقلص، بل تعاظمت ويتواصل تعاظمها.
كتبة مأجورون من جهة، وكتبة "يتفضّلون" بالتهويل لمصلحة إسرائيل من جهة ثانية، بناءً على عداوة متجذّرة للمقاومة، فيما كتبة آخرون يخدمون إسرائيل، بلا وعي منهم.