في ذروة الحديث عن مكافحة الفساد والتهرّب الضريبي وتخفيض العجز المالي، يطلّ مجدّداً ملف إعفاء 14 من كبار مكلَّفي الضرائب (مصارف وشركات عقارية وتجارية) من دفع غرامات مُتراكمة عليهم منذ أكثر من عقد، وتصل قيمتها إلى 115 مليون دولار. فقد أعادت رئاسة مجلس الوزراء طرح كتاب مرفوع إليها من قِبَل وزير المال، علي حسن خليل، منذ أيلول 2017، بنية إدراجه على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء المقبلة بهدف اتخاذ قرار فيه.يتضمّن الكتاب الذي يحمل الرقم 3727/ص1، جدولاً بأسماء المكلّفين الذين تستحق عليهم مبالغ للخزينة العامّة، وتقدّموا بطلبات لإعفائهم من الغرامات، وهي نتجت بالأساس من تهرّبهم من تسديد ضرائب بقيمة 52 مليون دولار، وأبرزهم شركة سوليدير (49.9 مليون دولار) بنك البحر المتوسط (26.5 مليون دولار)، شركة كازينو لبنان (8.3 ملايين دولار)، شركة الضمان العامّة للشرق الأدنى (4.9 ملايين دولار)، شركة لوريال لبنان (3.9 ملايين دولار)، بالإضافة إلى إدارة واستثمار مرفأ بيروت (3.1 ملايين دولار)... علماً أن وزير المال يطلب في كتابه من مجلس الوزراء «اتخاذ القرار المناسب بشأن التخفيضات المطلوبة (...) مع الإشارة إلى أن عدم بتّ هذه الطلبات أدّى ويؤدّي إلى عرقلة معاملاتهم ومعاملات الأشخاص المرتبطين بهم لدى وزارة المالية، كما يؤدّي إلى عدم متابعة إجراءات التحصيل الجبري بحقّهم لحين بتّ هذه الطلبات».
تتفرّع هذه الغرامات إلى نوعين:
1- غرامات التحقّق: وفقاً لمحامٍ متخصّص في القوانين الضريبية، تنتج هذه الغرامات من تهرّب هؤلاء المكلّفين من موجب التصريح عن أعمالهم وأرباحهم والرواتب والأجور والـTVA، ضمن المهل المُحدّدة، وهي تشكّل نسبة 5% من قيمة الضريبة عن كلّ شهر تأخير، وصولاً إلى 20 شهراً في حدٍّ أقصى. وتصل قيمتها لدى هؤلاء المكلّفين إلى 46 مليون دولار.
تصل قيمة الغرامات المتراكمة على كبار المكلّفين المتهرّبين من الضريبة إلى 115 مليون دولار


2- غرامات التحصيل: تنتج من التهرّب من موجب تسديد الضريبة التي يؤدّي التخلّف عن تسديدها ضمن المهل المُحدّدة إلى فرض غرامة التحصيل بنسبة 1% من قيمة الضريبة عن كلّ شهر تأخير إلى حين تسديدها. وتصل قيمة هذه الغرامات إلى نحو 69 مليون دولار أميركي.
إذاً، تعدّ غرامات التحقّق والتحصيل من الأدوات القانونية التي يجيز القانون فرضها لمكافحة التهرّب الضريبي وإرساء مبدأي المساواة والعدالة بين المكلّفين كافة. إذ يترتّب عن هذه الغرامات تعليق كلّ معاملات المتهرّبين ضريبياً مع الدولة، وبالتالي إبطال إمكانية حصولهم على براءة الذمّة وغيرها من المستندات الرسمية الضرورية التي تجيز لهم التعامل مع شركات أجنبية أو إجراء عقود جديدة أو الاستيراد من الخارج، إلى حين دفع الضريبة والغرامات المستحقّة.
هذا ما نصّ عليه القانون اللبناني. لكن في الممارسة، تختلف الأمور كثيراً، إذ يُسمَح بتشكّل نظام رديف يناقض القانون. وجرت العادة بأن يستخدم مجلس الوزراء أو المجلس النيابي، بين الحين والآخر، صيغة «عفا الله عمّا مضى» لإعفاء المخالفين (على أنواعهم) من جرائمهم (على أنواعها) ومن العقوبات والغرامات المترتبة عليهم. وهو ما يدفع، في حالات التهرّب الضريبي، إلى الامتناع عن تسديد الضريبة وترك غرامات التحصيل تتراكم إلى حين صدور قرارات الإعفاء!
ففي عام 2005، صدر عن مجلس النواب القانون 662 المتعلّق بـ«تحديد أسس تسوية الغرامات المفروضة بموجب قوانين الضرائب»، والذي سمح بهذه الاستنسابية المُخالفة لمبدأ المساواة المنصوص عليها دستورياً، وشرّع مكافأة المتهرّب من دفع الضريبة، بحيث أعطى وزير المالية صلاحية الاستنساب في إعفاء المتهرّبين ضريبياً من دفع الغرامات المستحقّة عليهم، شرط ألّا تتعدّى قيمتها المليار ليرة لبنانية، فيما حصرت المادة الثالثة منه إجازة تسوية أي غرامة تتجاوز قيمتها المليار ليرة لبنانية بمجلس الوزراء. لقد سمح هذا القانون بطرح إعفاء المكلّفين الكبار من الغرامات المستحقّة عليهم للمرّة الأولى في عام 2013، إلّا أن مجلس الوزراء لم يبت بالأمر نتيجة عدم التوافق عليه.


في الواقع، يعود الملف الراهن إلى عام 2013، حين طرح للمرّة الأولى على مجلس الوزراء لإعفاء ثلاث شركات من الغرامات المستحقّة عليهم، إلّا أن مجلس الوزراء كان في حالة تصريف أعمال، ما ترك الملف من دون قرار نهائي. ثمّ تبيّن لاحقاً أنه بموافقة مسبقة من رئاسة مجلس الوزراء، سمح وزير المال في حينه، محمد الصفدي، لهذه الشركات، بموجب كتابه الرقم 9251/و الصادر في تاريخ 20/8/2013، أن «تسدّد الضرائب المفروضة عليها، من دون غرامات التحقّق والتحصيل الواجبة عليها، في انتظار بتّ مجلس الوزراء الطلبات المتعلّقة بها». ومن حينها، عرض الملف مرّات عدّة على مجلس الوزراء، من دون أن يجري التوافق عليه واتخاذ قرار نهائي فيه. وسمح قرار الوزير لتلك الشركات بإكمال أعمالها أسوة بالشركات التي سدّدت ضرائبها ضمن المهل، وفتح الباب أمام المزيد من التهرّب الضريبي، إذ تراكمت طلبات الإعفاء التي تزيد على مليار ليرة من 3 طلبات في عام 2013، وصولاً إلى 14 طلباً في عام 2017.