لا لبس في أن عهد الرئيس العماد فؤاد شهاب أرسى قواعد الإدارة اللبنانية الحقيقية. هذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها حتى معارضو الشهابية، بمعناها الأمني الذي ترسّخ لاحقاً. فالإدارة التي ثبتت أجهزتها في تلك المرحلة، أنتجت شخصيات إدارية لامعة، مفصولة عن الإطار السياسي للعهد الشهابي، وأرست قواعد إدارية عملية ظل معمولاً بها لسنوات طويلة. لم يأتِ ذلك العهد بموظفين إلى الإدارة من بطانة شهاب وأزلامه، بل أتى بكفاءات وبشخصيات إدارية بقي أداؤها منزَّهاً عن شوائب أمنية أو سياسية في العهد الشهابي. ظل ذلك العهد مميزاً بنزعته الإدارية فوق الشبهات، إلى أن جاء زمن التسعينيات وسلطة ما بعد الطائف لتمعن تمزيقاً في الإدارة.اليوم، في ظل عهد العماد الرابع للجمهورية بعد شهاب والرئيسين إميل لحود وميشال سليمان، يفتح ملف التعيينات الإدارية، في أسلوب يشبه أسلوب التسعينيات، ولكن بوجوه جديدة، وبطريقة تشبه تلك التي كانت سائدة في ظل الوجود السوري، وهو ما كانت تشتكي منه كل القوى السياسية المسيحية المعارضة آنذاك. في تلك المرحلة، برز مسيحياً اسم النائب ميشال المر الذي عرف كيف يستفيد من المرحلة السياسية، فنال حصة كبيرة من التعيينات الأمنية والإدارية والبلدية والمحافظين والقائمقامين، واستخدم أدوات التحكم بالسلطة القائمة، برعاية النظام السوري. وكان أبرز حلفاء سوريا المسيحيين، ما بعد الطائف، الذين أُعطي لهم أن يفصّلوا الإدارة اللبنانية على مقاسهم، وهو نجح، على عكس بعض شخصيات تلك الحقبة من المسيحيين، بمن فيهم رؤساء الجمهورية، في الاحتفاظ بمفاتيح إدارية لا تزال موجودة إلى الآن. وفي المقابل، تقاسم الرئيس نبيه بري والرئيس الراحل رفيق الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الحصص الإدارية للشيعة والسُّنة والدروز.
ما يجري اليوم في ملف التعيينات الإدارية، وفي ظل الشغور الذي تُرك في بعض الأحيان عمداً، لشغله في الوقت المناسب وبالأدوات المناسبة، لا يجري على قاعدة بناء جهاز إدراي عصري وبإعادة هيكلة الإدارة على أسس عملية وعلمية، بل على قاعدة سياسية بحت، لا صلة لها بالإدارة، وبمحاصصة مكشوفة من دون أي التباس، تهدف إلى استحداث طبقة موظفين من المحازبين والأنصار لتمتين قاعدة الزعامات السياسية. ويشبّه أحد السياسيين هذه التعيينات بأنها حملة انتخابية أكثر منها تعيينات إدارية. فطريقة المفاوضات وتقاسم الأسماء وتوزعها بين القوى السياسية تشبه عملية تشكيل اللوائح واختيار أسماء الحزبيين والمناصرين. والمفارقة أن القوى المسيحية التي رفضت سابقاً منطق المحاصصة، هي نفسها اليوم التي تتزعم مبدأ تقاسم الإدارة حصصاً، وتتعامل مع المناصب الإدارية كعدد يتناسب مع حجمها الانتخابي وعدد مقاعدها في المجلس النيابي،كما هو حال تمثيلها في مجلس الوزراء، في معادلة مبتكرة لم يصل إليها حتى النظام السوري في عز تحكمه بالسلطة في لبنان.
ورغم أن المادة 14 من قانون الموظفين تنصّ على أن يتخلى الموظف «كلياً، في حال انتمائه إلى الأحزاب أو الهيئات أو المجالس أو الجمعيات السياسية أو الطائفية ذات الطابع السياسي عن أي مهمة أو أي مسؤولية في هذه الأحزاب أو الهيئات أو المجالس أو الجمعيات»، إلا أن المفاوضات الجارية حالياً تتحدث من دون مواربة عن حزبيين ومنتمين إلى القوى السياسية من أجل تثبيتهم في مواقع إدارية تحت سقف إنتمائهم السياسي إليها.
لا تشبه المفاوضات الجارية تلك التي كانت تجري في الحكومات السابقة، تحت حجة المطالبة بحقوق المسيحيين واستعادة دورهم وحضورهم في الإدارة. لأن الخلاف السياسي تحديداً بين القوى المسيحية، يتقدم على ضرورة تحسين أداء الإدارة وتحصيل حقوق المسيحيين. فالتيار الوطني الحر يفاوض تبعاً لحصته النيابية والوزارية، لكن مفاوضاته تنطلق من قاعدة أنه حزب العهد الذي يريد أن يحصل على أكبر حصة مسيحية في الإدارة، بعد المجلس النيابي والحكومة والجيش والأجهزة الأمنية. وفي ذلك خلفية ثابتة تحسباً للمستقبل الذي لا يمكن التنبؤ به، لجهة مصير العهد الحالي أو المقبل، فيضمن التيار بذلك حصته الكاملة في الإدارة مهما تغيرت الظروف. خصوصاً أن مفاوضاته تنطلق من مبدأ الحصول على مواقع حساسة وشاملة.
وتفاوض القوات اللبنانية من زاوية فرض وجودها في الإدارة، ولكن على قاعدة مقارعة التيار وتقاسم الحصص معه مناصفة - لأنها الحزب الثاني مسيحياً - واعتماد الآلية طريقاً وحيداً للتعيينات بدل الاتفاق السياسي. وتراهن القوات بذلك على حزب الله والرئيس نبيه بري في عدم تسليم التيار الوطني كل الحصص المسيحية، والمطالبة بالآلية، من دون أن تعلنها حتى الآن حرباً مكشوفة على أسلوب التيار في إدارة ملف التعيينات، في انتظار انتهاء خريطة توزع المناصب.
أما تيار المردة، فهو الوحيد الذي رفع الصوت بقوة ضد أداء التيار، مبدياً استعداده لمعركة إدارية لا يتنازل فيها عن حصته أيضاً. علماً أن المردة لم يحصل أيضاً في عهد النظام السوري على مكاسب إدارية شاملة في إدارات الدولة، مستنداً إلى زعامته التقليدية، من دون تعزيزها إلا بحصص معروفة ومحددة.
وإذا كانت هذه حال القوى المسيحية، فالواضح أيضاً توجه القوى السياسية الأخرى. لكن وفق هذه المحاصصة، أي فريق إداري سيكافح الفساد، ما دامت الإدارة والطبقة السياسية صارتا واحدة، فمن سيحاسب من، ومن سيكافح التمريرات والعمليات المشبوهة؟ وهل سيراقب المحازب رئيسه الحزبي ومن أتى به إلى جنة الإدارة؟