في عام 2000، رعى البطريرك مار نصر الله بطرس صفير مصالحة الجبل مع رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط. شكّل هذا الحدث منعطفاً مهماً في تاريخ الحروب اللبنانية، لكنه بقي منتقصاً لعدم اقترانه بغسل قلوب حقيقي ينتهي باعتراف المخطئ بخطئه والاعتذار عنه. وبالتالي، لم تخرج صورة المصافحة من الاطار الجميل، خصوصاً أن هناك من كان ينتظر التئام الجرح الذي تسبّبت به هذه الحرب. لذلك لم تبرد القلوب حقاً مذاك، وبقي البعض يعضّ على جرحه بانتظار تطور ما. لكن يوم أمس، حصل مستجدّ يمكن، ربما، التأسيس عليه كمنعطف حقيقي في مجرى ما بعد حرب الجبل وانعكاساتها على أهالي عاليه والشوف، بعد أن وضعت اللمسات الأخيرة بين وزير المهجرين غسان عطالله وجنبلاط على تحضيرات القداس الذي سيقام يوم السبت المقبل، أي بعد أسبوع على ذكرى اغتيال كمال جنبلاط. طبعاً، قداس تخليد ذكرى شهداء الجبل لن يكون عادياً كما يحصل خلال كل عام بعد المصالحة، بل ستتخلله كلمة لجنبلاط يُنتظر أن يعبّر فيها للمرة الأولى عن أسفه لهذه الحرب، ويعتذر بكلام واضح عن «الخطأ التاريخي الذي حصل، والذي لم يكن موافقاً عليه وحاول وقفه بشتى الطرق»، على ما تقول المصادر. فالقداس يأتي تحت عنوان «التوبة والمغفرة»، تليه كلمة لزعيم المختارة واخرى لممثل رئيس الجمهورية ميشال عون، وزير الخارجية جبران باسيل.يريد جنبلاط «خلق صدمة إيجابية» لدى الناس عبر طيّ صفحة الحرب لمرة أخيرة، في موازاة إقفال ملف المهجرين. وإجراء زعيم المختارة «مراجعة ونقداً ذاتياً ومصارحة»، كما قال في التغريدة التي نشرها على موقع تويتر يوم أمس، بعد مرور 42 عاماً على الحادثة، سيخلق جدلاً حول حروب كثيرة حصلت تحت ألف عنوان وعنوان، وكانت نتيجتها مشابهة لما حصل في الجبل، ثم تُركت من دون مصالحة أو اعتذار. لكن مما لا شكّ فيه أن جدلا آخر سيفرض نفسه حول موقف الاشتراكيين من كلمة جنبلاط يوم السبت المقبل، وردّ فعلهم حيال مسألة الاعتذار، الأمر الذي استبقه جنبلاط بما أورده في تلك التغريدة: «أهم شيء في الحياة النظرة الى الامام أياً كانت الصعاب، وطيّ صفحات الماضي المؤلمة. بلاد متعددة عرفت حروباً أهلية والطريق الأوحد في الخروج من رواسبها هو في المراجعة والنقد الذاتي والمصارحة. لقد كانت حرب دول على أرضنا، وكنا أدوات. معاً وفوق كل اعتبار ستبنون لبنان والتضحية من أجله واجب».
هل سيقبل الاشتراكيون «نقد جنبلاط الذاتي» واعتذاره ــ إن حصل ــ بصدر رحب؟ ألن يعتبره البعض تنازلاً أو إحراجاً؟ «نحن في الأساس طوينا صفحة الحرب وأي خطوة تصب في هذا الاطار تلاقي استحساناً لدى الجميع»، يقول مفوض الاعلام في الحزب الاشتراكي رامي الريّس لـ«الأخبار». ويضيف: «خطاب المصالحة هو خطابنا الأساسي، ونرفض كل ما يناقضه، لأننا حريصون على تكريس السلم الأهلي بمعزل عن تباينات يمكن أن تطرأ في المواقف السياسية اليومية وبعض التجاذبات». لكن أليست المصالحة شيئاً واعتذار زعيم الحزب الاشتراكي عن الحرب شيء آخر؟ «الحرب حرب، ولو لم يكن كل طرف لديه إيمان بقضية معينة لما وقعت أي حرب. من المفيد التطلع إلى المستقبل عوضاً عن نبش صفحات الماضية. فالحرب التي وقعت كانت خسارة للجميع ونشبت بسبب ظروف إقليمية ودولية معينة. لذلك آن الأوان لطيّها والتطلع قدُماً. أما المصالحة، فنعتبرها أهم الانجازات بعد الطائف، وأي خطوة تصبّ في هذا الاتجاه مرحّب بها. جمهورنا يساندنا في هذا الموضوع، والدليل أن الكل ينزعج عند صدور أي كلام يمس بالمصالحة أو يقلل من أهميتها».
الريس: «طوينا صفحة الحرب وأي خطوة تصبّ في هذا الإطار تلاقي استحساناً لدينا»


عرّاب المبادرة، هو وزير المهجرين غسان عطالله الذي طرح الفكرة على جنبلاط في اجتماع جمعهما منذ نحو شهر. الوزير الذي ينتمي الى بلدة هُجّر كل أبنائها في الحرب، يضع حالياً هدفاً له هو إقفال ملف المهجرين. ومبادرته تجاه جنبلاط تتم بالتنسيق بين رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر والحزب الاشتراكي بغياب القوات والكتائب. ويستحيل فصل ما يجري عن التقارب بين التيار والاشتراكي الذي بدأ قبيل تشكيل الحكومة غداة وضع جنبلاط الوزير الدرزي الثالث بتصرف رئيس الجمهورية لا رئيس الحكومة، فيما يذهب اليوم البيك الى تحصين الجبل ضد أي مشكلة، كي يزيل العصي من طريق ابنه تيمور. ففعلياً، التوتر الذي يصيب الجبل حالياً ليس بين الجنبلاطيين والقوات ولا الكتائب، بل هو عوني ـــ اشتراكي. لذلك سحبُ فتيل الشارع عن طريق «الاعتراف والاعتذار»، يهدف إلى تقوية أعمدة الزعامة الجنبلاطية في لحظة ضعف سياسي تعيشه المختارة، وأمر واقع فرضته عودة التيار سياسياً الى الشوف وعاليه. للمفارقة هنا، كاد القداس يلغى يوم أول من أمس بعد إصرار جنبلاط على إضافة اسمه في بطاقة الدعوة التي أعدّتها وزارة المهجرين، ورفض التيار هذه الاضافة التي ترجمت على أنها «عرقلة» وتجاوز للبروتوكول الذي ينص على عدم إيراد أي اسم تحت اسم رئيس الجمهورية الذي يرعى هذا القداس. لكن اتصالات يوم أمس أدت الى تسوية قضت بإضافة جملة في أسفل البطاقة تذكر إلقاء جنبلاط كلمة بعد القداس.
النقاش في التفاصيل لم يكن سهلاً، تشير مصادر مواكبة لها، بل أخذ كل تفصيل ما لا يقل عن 5 أيام لبلوغ نهايته السعيدة. أول هذه التفاصيل تمثل بعنوان القداس «التوبة والمغفرة»، لتنتقل بعدها الى مكان إقامته الذي حدّده عطالله في دير سيدة التلة في دير القمر لما تحمله المنطقة من رمزية. فأهل دير القمر لم يتهجّروا في الحرب، وشكلت ملجأً للمسيحيين المهجرين من مناطقهم. التفصيل الثالث تمحور حول حضور رئيس الجمهورية شخصياً والبطريرك بشارة الراعي، إذ اعتذر الأخيران عن عدم المشاركة. الراعي كونه زار الشوف أكثر من مرة للغرض نفسه، ورئيس الجمهورية لأنه يصدف أنه يسافر الى موسكو في اليوم التالي، فتم الاتفاق على تمثيله من قبل وزير الخارجية حبران باسيل. أما المشكلة الرابعة، فكانت بمعارضة حضور النائب طلال أرسلان قبل أن يقبل الاشتراكي بالأمر، لا سيما أنه لا يمكن فتح صفحة جديدة مسيحية درزية وخلق مشكلة في موازاتها درزية درزية.