لم يكن «للحريريّة» أن تكون في لبنان، كظاهرة أبعد مِن «مالية» (بمعنى تقديمات الحريري لمواطنين)، لولا المصارف. لولا بنك البحر المتوسّط، تحديداً، الذي أصبح أخيراً «بنك ميد». هو المصرف الذي اقترن اسمه باسم رئيس الحكومة السابق، الراحل رفيق الحريري، منذ منتصف تسعينات القرن الماضي. كانت وكالة «رويترز» نشرت، قبل 14 عاماً، إثر اغتيال الحريري، تقريراً يستعرض تراجع أرباح المصرف. نقل التقرير عن مصرفيين أنّه لا بدّ، كواحد مِن الحلول العلاجيّة، مِن «تقليص العمالة الزائدة عن الحاجة». الحديث هنا عن صرف موظّفين. لم يكن سرّاً أنّ توظيفات ذاك المصرف، إلى حدّ بعيد، كانت سياسيّة - مذهبيّة، على طريقة «التنفيعات» الشعبويّة الهادفة إلى مدّ نفوذ الزعيم وكسب الولاء له. اليوم، يبدو أن الفقاعة وصلت إلى حدّ الانفجار. وبدأت عمليات الصرف. ثمة تضارب حقيقيّ في ما خص عدد المصروفين. إدارة المصرف ترفض إعطاء رقم واضح. العاملون يتحدّثون عن 400 موظّف، والنقابة تقول بأن الرقم يتجاوز المئة بقليل.بداية، ارتفع صوت بعض المصروفين علناً، وبعض المُهدَّدين بالصرف تلميحاً، على مواقع التواصل الاجتماعي. أحدهم راح يترحّم على رفيق الحريري، مغرّداً، في مقابل تأسّفه على ما حلّ بعده: «يا ريت أخدتنا معك...». آخر غرّد، على طريقة «يحصل في أحد البنوك» اللبنانيّة، عن الرواتب الهائلة لبعض المدراء مقارنة بموظّفين آخرين. يتّضح لاحقاً أنّ الصرف يطال، في أكثره، الحرّاس ومَن يماثلهم موقعيّة مِن «صغار الموظّفين». هؤلاء الذين، بحسب أحدهم، هم «الذين مثّلوا، خلال السنوات الماضية، البيئة الحاضنة الصلبة للحريري وتيار المستقبل... ما بعرف إذا الشيخ سعد (الحريري) بيعرف إنو هيدي البيئة هي اللي عم تنضرب اليوم». موظّف غاضب آخر يكتب: «سائق المدير يقول إنّ مديره يملك فيلا في شانيه تكلفتها ما يقارب 6 ملايين دولار، من أين لك هذا؟ مديرة تملك شقة سعرها 3 ملايين دولار. من المسؤول عن إخراج موظفين من لون واحد، هو لون ابن بيروت فقط؟». نشر الأخير صورة لإحدى أشهر الناشطات في تيار المستقبل، على المستوى الشعبي، وإلى جانبها صورة الرئيس الحريري، قائلاً: «دولة الرئيس هيدي نسما، أكثر وحدة بتحبّك بلبنان». يبدو أنّ الصرف يطال نسما، إيّاها، التي ظهرت في الصورة حاملة للعلم السعودي. يصعب متابعة هذا المشهد، وتغريدات موجعة أخرى، مِن غير أن يخرج بخلاصة: إنّهم يقولون لـ«الحريريّة» إيّاها «أخدتونا لحم ورميتونا عظم».
أكثر مِن ذلك. الصرف، بحسب بعض المصروفين، لم يكن «أخلاقيّاً» حتّى في الشكل. عُرِض على بعضهم، كصفقة، ألّا يُصرفوا ولكن في المقابل سيتغيّر موقعهم الوظيفي. مثلاً، يُعرَض على الحارس، الذي حمى سائر العاملين لسنوات طوال، ومَن كان هو في دائرة الخطر، أن يُصبح «مقدّم قهوة» أو «عامل تنظيفات». أحدهم عُرِض عليه «تنظيف الحمّامات» تحديداً. عزّت عليه واختنق. هذا صرف مقنّع. لا يُحكى عن قانون هنا، حتماً، ولا حتّى عن وفاء لهؤلاء، بل أقلّه عما يسمّى لباقة أو «إنسانيّة». آه، نسينا أنّنا نتحدّث عن مصرف.
عموماً، أليس لموظّفي المصارف نقابة؟ بلى، يوجد. رئيس هذه النقابة، أسد خوري، يخبرنا أنّه على علم بما يجري، وأنّ المصرف «أجرى إعادة هيكلة، فطلع في موظّفين زيادة، وعم يدفعولهم تعويضات إضافيّة بتوصل، بأحسن الحالات، لحدود 3 سنوات». هذه أحسن الحالات. يجزم خوري، بحسب علمه، أنّ عدد المصروفين «لم يصل إلى 400 موظف، بل الحديث عن أكثر مِن 100 موظف، ولكن مِن غير الواضح إلى أي عدد يُريد المصرف أن يصل. هل يصل إلى صرف 400 فعلاً... ما بعرف». يُخبرنا النقيب أن بعض المصروفين تواصلوا معه، لذا «عقدنا اجتماعات مع إدارة المصرف، وحاولنا أن نحسّن للمصروفين العطاءات». ماذا عن حكاية تنظيف الحمّامات وما شاكل؟ يُجيب خوري: «حاولنا التدخل لفرملة هذه المسألة. يبدو أنّها توقفت. في مسألة العطاءات نحن لا نتحدّث عن قانون، القانون هنا بيسوى (...)، ولكن عموماً التعويضات مقبولة بالحدود الدنيا».
عُرِض على بعض الموظّفين قبل صرفهم أن يَعملوا في تقديم القهوة أو تنظيف الحمّامات


تواصلت «الأخبار» مع إدارة المصرف، لمعرفة رأيها في ما يحصل. المدير العام التنفيذي للمصرف، راوول نعمة، أخبرنا عن مسألة إعادة الهيكلة، وأنّ «هناك أيضاً بعض الفروع القريبة مِن فروع أخرى، هذه نعمل على إقفالها. لقد راعينا حالة كلّ موظّف على انفراد، كنّا كرماء معهم، قدّمنا لهم «باكيدج» متكاملة». يوضح نعمة، الذي لم يُكمل عامه الأول بعد في الإدارة، أنّ بعض الموظفين «كان لا بد مِن إرسالهم إلى بيوتهم. هؤلاء لم يكونوا يعملون واقعاً، نبحث عن أحدهم فنجده نائماً مثلاً، أما البعض الآخر فشملته إعادة الهيكلة ببساطة». طبعاً، مدير البنك ليس هو صاحب البنك، هو تسلّم تركةً بما فيها من تضخّم التوظيف الزبائني إيّاه، ومعلوم أنّ بعض الموظّفين الذين لم تعُد تتسع لهم مؤسسات أخرى للحريري، على مدى السنوات الماضية، كانوا يُحوَّلون إلى المصرف. بناء على ذلك يأتي سؤال: هل سعد الحريري على علم بمسألة صرف الموظفين أخيراً؟ يُجيب نعمة: «بالتأكيد، كل المساهمين في المصرف (الحريري أحدهم) على علم بذلك».
ماذا عن حكاية تقديم القهوة وأعمال التنظيفات؟ لا تنفي إدارة المصرف ذلك بالمطلق، وتسأل: «هل يخجل أحد أن يُنظّف منزله؟ عموماً كنّا نفكر بطريقة إيجابية حتى لا يُصبح المعروض عليهم ذلك بلا عمل. يُمكننا أن نتعاقد مع شركة تنظيفات، وبتكلفة أقل، ولكن قررنا أن ندفع أكثر مقابل عدم صرف موظفين إضافيين».
إلى ذلك، ترفض الإدارة أن تُفصح عن الرقم الحقيقي للمصروفين، مع الإشارة إلى «توظيفات جديدة حصلت». يعلم المعنيّون في المصرف بوجود حالة امتعاض مِن جانب المصروفين، مِن جانب بيئتهم أيضاً، وأنّ المسألة تأخذ بُعداً مذهبيّاً - حزبيّاً. بديهي أن يكون المصروفون، في أكثريتهم، مِن أهالي بيروت ومِن السُنّة، ذلك «لأنّ المصرف سُنّي وأكثر موظفيه مِن السُنّة، فبطبيعة الحال أن يكون أكثر المصروفين كذلك».
في أرشيف صفحات بعض المصروفين، على مواقع التواصل الاجتماعي، الكثير مِن مفردات التعصّب و«الاستعداد للتضحية» مِن أجل الشيخ سعد. بعضهم يصمت الآن خوفاً مِن الشماتة. بعض «المرتاحين» ينصحون بذلك. لو أن أعتى كارهي الحريري، مِن أيّ جهة، أرادوا الإضرار به في العمق، لما فعلوا بحقه أكثر مما يفعل هو بحقّ نفسه. أتراه ليس لديه خيارات أخرى؟ ربّما. هكذا تكون النهايات.