في السابع والعشرين من الشهر الماضي، بعث النائب السابق وليد جنبلاط رسالة بالبريد الإلكتروني إلى الكاتب البريطاني جايمس بار، قال فيها (بالانكليزية):«يوم امس، وقّع لبنان، ممثلاً بوزير الطاقة والطاقة (كذا)، اتفاقاً مع شركة روسنفت بشأن خزانات النفط التابعة لمصفاة طرابلس التي بنتها شركة النفط العراقية في الثلاثينات على ما اعتقد. في الأمس البريطانيون والفرنسيون، اليوم الروس والإيرانيون. سايكس - بيكو الجديد. سوف نسميه لافروف - ظريف». وختم جنبلاط الرسالة بتحية ووردة.
المرسَل إليه، جايمس بار، هو صاحب كتاب «خطّ فوق الرمل»، الذي يؤرخ للصراع الفرنسي - البريطاني الذي أعاد رسم خريطة المشرق بعد سقوط السلطنة العثمانية. في حالة مماثلة، قد يخرج من يعبّر عن إعجابه بـ«أنتينات» البيك، وبقدرته على قراءة المتغيرات الجيواستراتيجية، فضلا عن ثقافته الواسعة، وعلاقاته المتشعبة. لكن القليل من التدقيق يُظهر أن جنبلاط لم يكن يعبّر عن قدرة فائقة على رؤية ما تخفيه الاتفاقات الاقتصادية من تحولات سياسية. كل ما في الأمر أنه مذعور من توقيع الاتفاق مع الشركة النفطية الروسية، وإمكان أن يكسر احتكاره للغاز المنزلي الذي يدر عليه أرباحاً سنوية تبلغ نحو 4.8 مليون دولار. هنا لب القضية بالنسبة إليه. يمثّل جنبلاط في هذه الحالة النموذج الأفضل لاستحالة فصل الاقتصاد عن السياسة. وفي بلد كلبنان، قد يلتصق الاقتصاد بالسياسة بصورة أكثر تماسكاً مما هو عليه في غيره من البلدان، بسبب «مادة عضوية» لاحمة بينهما اسمها «الفساد واستغلال السلطة». ليس النموذج السياسي اللبناني نتيجةً للتحالف بين سياسيين ورجال أعمال. السياسيون، أي واضعو السياسات الحقيقيون، هم أنفسهم رجال الأعمال. صاحب المصرف هو صاحب كتل نيابية وتيار سياسي. وصاحب شركة النفط وشركة الغاز وشركة الترابة وشركة صناعة النبيذ وشركة عقارية هو صاحب كتلة نيابية ووزارية وصاحب حزب سياسي... «انتينات» جنبلاط قرأت بعمق الاتفاق بين لبنان والشركة الروسية يوم 25 كانون الثاني 2019 (راجع «الاخبار»، عدد 26 كانون الثاني 2019). لكن ليس من زاوية «استراتيجية»، بل من زاوية 4.8 مليون دولار تدخل حساباته المصرفية سنوياً من أرباح الغاز. اطلق مستوردو المشتقات النفطية النفير، وأقنعوا البيك بأن أرباحه في خطر، فلم يجد الأخير للتعبير عن غضبه سوى القالب التاريخي الجيوسياسي ليضع فيه مخاوفه الضيقة.
لم يكن جنبلاط المذعور الوحيد. معاونو السفيرة الاميركية إليزابيت ريتشارد كادوا يُفرغون «بطارية» هاتف الوزير السابق سيزار أبي خليل من كثرة اتصالاتهم به. يضغطون عليه طارحين سؤالاً وحيداً: «هل يمكنك توقيع اتفاقية مماثلة وأنت وزير في حكومة لتصريف الاعمال»؟ ردُّ أبي خليل تجاوز «الانبطاح» الدبلوماسي الذي اعتاد موظفو السفارة الاميركية سماعه من المسؤولين اللبنانيين. قال للمتصلين به: «لدينا قاضٍ اسمه هنري خوري، هو رئيس لمجلس شورى الدولة، سيُحال على التقاعد قريباً. أنصح سعادة السفيرة بترشيح نفسها لشغل هذا المنصب بعد شغوره، لتمارس حرصها على حسن سير العمل الإداري في الدولة اللبنانية»!
لكن ممثلة دونالد ترامب في بلادنا لم تيأس. اتصلت برئيس الحكومة سعد الحريري، وبغيره من السياسيين، محتجة. الأميركيون هنا، كجنبلاط. لا فرق عندهم بين السياسة والاقتصاد. هما أمر واحد. الوجود الروسي في شرق المتوسط «خطر استراتيجي». ولا فرق إن كان قاعدة عسكرية، او خزاناً للنفط. سلوكهم عندنا لا يختلف عن البلطجة التي يمارسونها في شتى أصقاع الأرض، من «هواوي» الصينية إلى «السيل الشمالي» في ألمانيا. تماماً كجنبلاط. قولوا ما شئتم، وافعلوا ما شئتم. لكن لا تهددوا أرباحي. في السياسة، وفي الاقتصاد. أرباحي واحدة. وكذلك خسارتي!