منذ مقابلته الشهيرة على قناة «الميادين»، في كانون الأول 2017، يكرّر رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل، إطلاق مواقف «مجانية» تخصّ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، لا تخلو من «التسويق» لفكرة السلام مع العدو الإسرائيلي. فحين أكّد باسيل، لـ«الميادين»، أنه «ليس لدينا صراع أيديولوجي مع إسرائيل»، لم يأت تصريحه في سياق سؤال حول موقفه من هذا العدوّ. وبدا الموقف «إدخالاً» لا داعي له، وخصوصاً لرئيس الدبلوماسية اللبنانية، الذي كان ليجد بحنكته، جواباً دبلوماسياً يوازي فيه بين موقفه الشخصي وموقف الدولة اللبنانية الرسمي وموقف حليفه الرئيسي على الساحة اللبنانية حزب الله، على سؤال قد يكون «مُحرجاً» لو سئل مباشرةً، وهو لم يُسأل عنه في الأصل.وبمعزل عن غاية باسيل من طرح موقفه هذا عبر منبر محسوب على محور المقاومة، كرّر وزير الخارجية الفعلة نفسها نهاية الشهر الماضي عبر قناة «سي. ان. ان» الأميركية في مقابلة قصيرة مع الصحافية بيكي أندرسون، طارحاً أيضاً حقّ «إسرائيل بالأمن»، ولو أنه غلّف موقفه الأخير، بـ«مبادرة السلام العربية»، التي استخلص منها بالنتيجة أنه لـ«العرب الحق بالأرض، لفلسطين الحق بالدولة، ولإسرائيل الحق بالأمن».
وإذا كان يمكن إيجاد المبرّر لباسيل، من خلال طرحه موقف «حق إسرائيل بالأمن» على شاشة أميركية وأمام جمهور غربي، فما هو المبرّر لتكرار باسيل المعزوفة ذاتها من على منبر كنيسة مار مخايل وفي الذكرى الـ 13 للتفاهم مع حزب الله؟
في الحالة الأولى، أي مقابلة «سي. أن. أن.»، لم يكتفِ باسيل باستخدام لغة الغرب في مقاربة إشكالية الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، بل ذهب بعيداً في تبنّي منطقه. فهو، كوزير خارجية للبنان، ليس مطلوباً منه أن يهدّد بإزالة إسرائيل من الوجود، لكن، ما هو تبرير التطمينات «المجانية» لإسرائيل وداعميها من القوى الغربية، الذين يقدّمون أمن الكيان على أي أولوية أخرى في المنطقة؟
أمّا في الحالة الثانية، وإصرار باسيل على «أمن إسرائيل» من على منبر مار مخايل، ثمّ إعلانه عبر إذاعة النور، أن قوىً لبنانية أخرى تتبنى مبادرة السلام العربية، مسمّياً حركة أمل والحزب السوري القومي الاجتماعي، فذلك إما نقص في المعلومات، أو تضليل. فلا الحزب القومي تسمح عقيدته بالقبول بوجود الكيان من أصله (وقد ردّ أول من أمس في بيانٍ على كلام باسيل) ولا حركة أمل، التي قاد مؤسسها الإمام موسى الصدر بدايات الصراع مع العدو (سمّى الصدر «إسرائيل» بـ«الشر المطلق»، وحرّم، دينياً، أي تعامل معها مطلقاً)، قبِلت بالمبادرة. ورئيسها الحالي نبيه برّي أطلق قبل نحو شهرين ــــ في اجتماع الاتحاد البرلماني الدولي في باريس ــــ موقفاً يؤكّد فيه أن الحل الوحيد مع العدو هو السلاح والمقاومة. ولو أن بري، كرئيس لمجلس النواب اللبناني، كان جزءاً من لبنان الرسمي حين إقرار المبادرة المشؤومة في بيروت.
من خَوَّل باسيل أن يطرح موقف لبنان من الصراع مع «إسرائيل» في هذا الوقت؟


يُظهر باسيل فجاجةً في إبراز الخلاف الجوهري مع قوى المقاومة في لبنان، حول الموقف من مستقبل الصراع مع إسرائيل، مقدماً أوراق اعتماد دولية تدعم طموحه في الوصول إلى رئاسة الجمهورية. وهذا الأمر، كما طرحه باسيل، يحوّل التحالف مع المقاومة، من تحالف وطني قائم على فكرة المواطنة ووحدة الحياة لإنقاذ لبنان من أتون الطائفية والدولة الضعيفة التي يعيش فيها منذ تأسيسه، ما يمكّنه من مواجهة إسرائيل في النموذج وليس في قوة السلاح فحسب، إلى تحالف مرحلي بين طائفتين وجماعتين، سرعان ما قد ينهار مع تعارض المصالح السياسية، مثل الخلاف على اسم رئيس الجمهورية!
والسؤال الأهم، يبقى حول توقيت إصرار باسيل على التسويق لفكرة السلام. من خَوَّل باسيل أن يطرح موقف لبنان من الصراع في هذا الوقت؟ حتى لو كان لبنان الرسمي لا يزال ملتزماً بـ«مبادرة السلام العربية»، لمصلحة من التذكير بالتزام لبنان بأمن إسرائيل؟ هل تلتزم إسرائيل بممارساتها منذ المبادرة التي مرّ عليها 17 عاماً، أمن لبنان؟ وخصوصاً بعد مضيّ كل تلك المدة على المبادرة، ورفض العدو لـ«ملاقاة» الذين أطلقوها... إذا كان باسيل، وسواه من المسؤولين العرب، يرون أن إسقاط «مبادرة الأمير عبد الله» يضرّ بالمصالح العربية المشتركة، فما المصلحة في إعلان التمسك الدائم بها، فيما إسرائيل تتعامل معها كأمر سقط بمرور الزمن؟
إسرائيل حصلت على اعتراف أميركي بـ«السيادة» على القدس المحتلة، وتسعى للحصول على قرار مماثل في الجولان، وتبني المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية، وتعلن نفسها «دولة يهودية»، وتهدّد لبنان يومياً في البحر والجو والبر وتستبيح سيادته، وتطمح لسرقة نفطه وغازه من البحر، فماذا تبقى من المبادرة؟ هل حصل العرب على الأرض؟ هل حصلت فلسطين على الدولة؟ هذا عدا عن أن احتمالات الحرب معها قائمة في كلّ ساعة، وهي تخلق الذرائع متى شاءت لشن العدوان.
كثر، قبل باسيل، طرحوا «السلام»، إلّا أن أحداً لم يجد صيغة واضحة لإحيائه، طالما أن «الأيديولوجيا» المعادية، تبدأ من إسرائيل قبل غيرها.
عندما تبدأ إسرائيل، بإزالة شعاراتها التي ترفض وجود أحد سواها، من على المنابر أوّلاً، ثم يتجرأ مسؤول إسرائيلي واحد على تبني طرح «السلام النهائي»، ويتوقف أعضاء الكنيست عن الهرب من مواجهة الحاخامات الذين يصفون أصحاب الحلول السلمية بـ«رابين العصر». عندها، لن تكون «المبادرة» إلى السلام من جانب لبنان أو فلسطين أو سوريا، لأن سبب وجود دولة إسرائيل سيسقط من أساسه. ومن الآن وحتى ذلك الزمن، ليقل باسيل ما يشاء... فلا سلام بوجود «إسرائيل».