آخر مفاجآت الوزير جمال الجراح، قبل مغادرته وزارة الاتصالات، كان إصداره ثلاثة قرارات يتراجع فيها عن ثلاثة قرارات أصدرها في الخامس من آذار 2018، ويجيز فيها لكل من شركات: ترايسات (Tri Sat)، غلوبال كوم داتا سرفيسز (GDS) ووايفز (Waves)، ممارسة حق المرور والترابط باستخدام شبكة الألياف الضوئية المحلية العائدة للوزارة وربط المشتركين بشبكتها».وهذه القرارات المُبطلة سبق أن طعن فيها الاتحاد العمالي العام ونقابة موظفي أوجيرو، في 25 نيسان 2018، أمام مجلس شورى الدولة، ولم يصدر القرار بشأنها حتى اليوم.
الإشكاليات التي تعترض الملف لا تنتهي، لكن جميعها تدور في فلك إصرار الوزير على إعطاء الشركات الحق بالاستفادة من الشبكة العامة للألياف الضوئية. بدأت القصة في 11 أيار 2017. في ذلك اليوم، أصدر وزير الاتصالات قراراً رقمه 365 يعطي فيه شركة «جي دي أس» حق تمديد ألياف بصرية في المسالك الهاتفية العامة، وكذلك حق الاستفادة من شبكة الألياف الضوئية الخاصة بأوجيرو، لتمديد اشتراكات للمواطنين. وفي 13 حزيران من العام نفسه، عاد الجرّاح وأصدر قراراً مشابهاً يعطي الحق نفسه لشركة Waves. لكن المفاجأة التي لم يتوقعها في حينها كانت بوقف مجلس الشورى تنفيذ القرارين، بعدما تقدم المحامي علي عباس بدعوى إبطال، موكلاً من الاتحاد العمالي العام ونقابة عمال أوجيرو.
(مروان طحطح)

إيقاف التنفيذ لم يردع الجراح عن المضيّ قدماً بقراره. فكان أن استصدر القرارات التي تحمل الأرقام 82 و83 و84، بمضمون القرارين المُوقَف تنفيذهما نفسه، مع تعديلات طفيفة ومع إدخال شركة ثالثة إلى القطاع هي ترايسات.
وأكثر من ذلك، وتأكيداً على قراراته، ذهب الجراح باقتراح إلى مجلس الوزراء يطلب فيه إصدار مرسوم بالمضمون نفسه، لكن وفق آليات ترخيص جديدة، فكان له ما أراد في 26 نيسان 2018 (بعد يوم واحد من تقديم الطعن بالقرارات الثلاثة)، علماً بأن الاتحاد العمالي عاد وقدم طلب إبطال للمرسوم أيضاً. وعليه، فقد صار أمام الشورى طلبات لإبطال خمسة قرارات (أصدر وقف تنفيذ لاثنين منها، من دون أن يصدر قراراً في الأساس) ومرسوم، كان ينتظر أن تُبَتّ جميعها.
في هذا الوقت، واستباقاً للقرار المتوقع، عمدت الشركات إلى تثبيت أقدامها على أرض الواقع، كبديل من «أوجيرو»، من دون أن تسعى إلى مد أي كابل، كما سمحت لها القرارات. بل فضّلت تتبّع أوجيرو . فأينما تمد الأخيرة الكابلات، تسبقها إلى المشتركين عارضة عليهم خدمات الفايبر، وبأسعار أقل (أوجيرو مقيّدة بأسعار رسمية مرتفعة للتمديدات، فضلاً عن عدم قدرتها على تقديم الخدمات إلى داخل المنازل).

الجراح يزور رئيس «الشورى»
صحيح أن «الشورى« تأخر في بتّ طلبات الإبطال، لكن ذلك لم يمنع من تسرب أنباء من داخل المجلس عن توجهه نحو قبول الطعون. فبالنظر إلى كل المعطيات القانونية التي رافقت الملف، كانت الغرفة الناظرة في الدعوى، والتي يرأسها رئيس المجلس القاضي هنري خوري، بأغلب أعضائها، على اقتناع بعدم قانونية القرارات.
في هذه الأجواء تحديداً، أكدت مصادر «الشورى» أن الجراح زار رئيس المجلس القاضي خوري في مكتبه في العدلية، مستطلعاً مصير الطعون. وفيما تؤكد المصادر أن خوري كان مستمعاً لا متكلماً، وخاصة في ما يتعلق بقضايا لم يصدر القرار بشأنها بعد، إلا أنه كان واضحاً أن الوزير يملك معلومات واضحة تشير إلى نية المجلس إبطال القرارات التي رُخّص بموجبها لشركات نقل المعلومات تمديد شبكات ألياف ضوئية واستعمال شبكات الألياف الضوئية العائدة لهيئة أوجيرو ومسالكها.
وبالرغم من أن مجرد مناقشة الوزير للقضية مع رئيس المجلس هو تدخل بعمل القضاء، إلا أنه كان واضحاً بنتيجة اللقاء أن هذا التدخل لن يؤتي ثماره. وعليه، ما إن عاد الجراح إلى مكتبه، حتى عمد إلى إصدار ثلاثة قرارات، ألغى بموجبها قراراته السابقة، لكن من دون أن يلغي آثارها ومفاعيلها ونتائجها التي تمت طيلة السنتين الماضيتين.
قانونياً، فإن إلغاء القرارات المطعون بها يجعل مجلس الشورى أمام دعاوى فارغة وغير ذات موضوع، ويحول دون إصدار قرارات إلغاء، بل قرارات إعلان غياب الموضوع، الأمر الذي يحفظ ماء وجه الوزير الجراح، ويرحّل القضية الى وزير الاتصالات الجديد في الحكومة الجديدة.
وبالرغم من أن مصادر متابعة توضح أن الوزارة أبلغت مجلس الشورى، خطياً، نسخة مصدقة عن هذه القرارات، إلا أن مصادر المجلس تؤكد أنه لم يصلها، حتى يوم أمس، أي بعد 15 يوماً من القرارات، أي مراسلة بهذا الشأن، وأن لا تخفي أنها سمعت بها، وهي بانتظار أن تصلها.

القرارات لم تنفذ
بعيداً عن مسار الدعاوى، يشير القرار في مادته الثالثة إلى أنه «يُعمل بهذا القرار منذ تاريخه (15 كانون الثاني 2019) وعلى هيئة أوجيرو ووحدات الوزارة التقيد بمضمونه»، إلا أن المكتب الإعلامي في أوجيرو يجزم بأن الهيئة لم تتلقّ، لا من وزارة الوصاية ولا من القضاء المختص، أي إشعار يتعلق بعمل الشركات الخاصة في قطاع الفايبر، وبالتالي فهي تمارس عملها كالمعتاد.
ويتقاطع ذلك مع معلومات من الوزارة تفيد بأن الإدارات المعنية لم تتبلغ القرار أيضاً، ما يطرح أكثر من علامة استفهام بشأن القرار وتنفيذه، لكنه لا يلغي حقيقة أن الشركات تعمل حالياً من دون أي سند قانوني، علماً بأن «الأخبار» اتصلت بشركتين تؤمنان خدمة الفايبر، حيث أكد المعنيون استعداد الشركتين لتركيب خطوط الفايبر في أي مكان توجد فيه علبة لأوجيرو.
في الخلاصة، يؤكد المحامي علي عباس أن «الأعمال التي تقوم بها شركات «جي دي اس» و«وايفز» و«تريسات» هي أعمال غير شرعية لعدم إمكانية إسنادها الى القرارات الثلاثه التي رجع عنها الوزير، ولأن القرارين السابقين موقوف تنفيذهما من مجلس الشورى، ولأنه لم تجر المباشرة بتنفيذ المرسوم. وعليه، فإن أي مواطن يُستوفى منه رسم بعد ذلك يستطيع الادعاء جزائياً على الشركات كونها تستوفي أموالاً عامة بدون وجه حق».
الجرّاح يتراجع عن قرارات الإجازة لشركات خاصة تقديم خدمات الفايبر


في بناءات قراراته، يعتبر الجراح أنها تعود إلى المرسوم الرقم 3260 الذي صدر في الجريدة الرسمية في 12 حزيران الماضي، والمتعلق بتحديد الإطار العام لتنظيم إدخال خدمات نقل المعلومات والإنترنت الفائقة السرعة بواسطة القطاع الخاص والأصول الواجب اتباعها للسماح للشركات المرخصة باستعمال البنى التحتية العائدة للوزارة من أجل تأمين هذه الخدمات. وهذا يعني أن الرجوع عن القرارات كان يفترض أن يتم بمجرد صدور المرسوم، فلماذا انتظر الوزير المعني ستة أشهر حتى يلغي قراراته؟ هذا يعني ببساطة أن ما ألزمه القيام بهذه الخطوة هو معرفته بوجهة قرارات الشورى، وليس إقرار المرسوم، علماً بأن ثمة من يجزم بأن صدور المرسوم يعني إبطال القرارات المتعلقة بالموضوع نفسه تلقائياًَ، كون المرسوم أعلى مرتبة من القرارات، وهو كان واجب التنفيذ بمجرد صدوره. فلماذا لم يفعل الجراح ذلك؟
بالمحصلة، فقد صارت الدعاوى بدون موضوع باستثناء مراجعة إبطال المرسوم، الذي يؤكد الجراح، في قراره، أنه لم ينفّذ. ويؤكد فيه حق الشركات بالحصول على ترخيص جديد بموجب الشروط المحددة فيه.
تستطيع الشركات الطعن برجوع الوزير عن قراراته لأنه انقضى عليها أكثر من شهرين، لكنها ملزمة أيضاً بالتوقف عن العمل مباشرة، إلى حين بتّ الطعن (في حال قدمته)، أو إلى حين تقدمها بطلب الحصول على الترخيص بموجب المرسوم. كما يجب عليها تسليم مواقع العمل إلى الوزارة أو إلى أوجيرو، وإلا اعتبرت معتدية على الأملاك العامة. وهذا أمر إن حصل يستوجب تدخل النيابة العامة المالية، كما يستوجب منها إعادة ما استوفته من رسوم أولية من المواطنين في المناطق التي لم تستكمل الأعمال فيها.