تنشط الاستخبارات العسكرية الفرنسية ضمن قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب. بعض الضباط من إسبانيا ودول أخرى، يعزون النشاط الفرنسي الى غياب الولايات المتحدة المباشر عن القوة الدولية، والى أن باريس تهتم من خلال هذا الدور لفرض مقعد لها في المعادلة العسكرية الدولية في لبنان، وخصوصاً أنها تتعرض لإهمال من جانب قيادة الجيش اللبناني التي لن تشتري أسلحة فرنسية وتستمر في الاتكال على المساعدات الأميركية. كما أن الجيش لا يريد إدخال الفرنسيين في أي نشاط أو عمل عسكري لا علاقة لهم به، مثل ملف الأفواج الحدودية، حيث يقتصر تعاون الجيش مع الولايات المتحدة وبريطانيا.الفرنسيون يعوّلون على دورهم في القوات الدولية، من أجل تعزيز علاقتهم مع إسرائيل أيضاً. وتطوع الفرنسيون مراراً لنقل هواجس العدو الى الجهات اللبنانية الرسمية والسياسية حيال ملف القوة الصاروخية للمقاومة. وتظهر المعلومات الواردة من باريس أن فرنسا معنية بتعزيز دائرة التعاون الأمني والعسكري مع العدو وتوسيعها في ساحات أخرى غير لبنان، مثل سوريا حيث التشاور بين تل أبيب وباريس قائم حول كيفية التعامل مع القرار الأميركي بالانسحاب.
لكن النشاط الفرنسي له فائدة وحيدة، وهو الكشف عن ظواهر جديدة تخفي هواجس من أن يكون في لبنان من يسعى الى تغيير عقيدة الجيش اللبنانية لناحية كيفية التعامل مع اعتداءات العدو الإسرائيلية البرية والبحرية والجوية، علماً بأن الجيش لا يملك أي قدرات على منع خروقات العدو في البحر والجو، لكنه يملك قدرات محدودة في مجال البر.
تكشف مصادر في القوة الدولية لـ«الأخبار» أن المندوب الفرنسي في لجنة الارتباط التي تتواصل بين لبنان وإسرائيل، يتصرف بـ«ثقة كبيرة» إزاء أن لبنان لن يقدم على خطوات تصعيدية في وجه أعمال العدو على طول الحدود. وأن هذا الضابط «يقول لزملائه إنه حتى لو ظهر أن الجنود اللبنانيين المنتشرين في النقاط الحدودية يقومون بتحركات توحي باحتمال حصول مواجهة، فإنه على ثقة بأن اتصالات عاجلة سوف تردهم من قيادة الجيش في بيروت تمنع عليهم القيام بأي عمل عسكري مباشر». وأكثر من ذلك، يقول الضابط الفرنسي إنه «تبلغ من الجانب اللبناني أن الجيش سوف يساعد على تخفيف التوتر، وأنه سيتخذ إجراءات تمنع المدنيين أيضاً من الاقتراب من النقاط الحدودية». ويعطي على ذلك مثالاً، ما حصل في بلدة ميس الجبل، حيث توقف فجأة نشاط الأهالي عند نقاط التماس الحدودية، وخصوصاً بعد المواجهة الشهيرة التي قامت بين ضباط وجنود لبنانيين، ومجموعة من قوات العدو كانت تنوي إقامة سياج حدودي في نقاط متنازع عليها.
وفي عملية التدقيق، يتبين أن قيادة الجيش واجهت صعوبات في كيفية التعامل مع لحظات التوتر التي تحصل على الأرض، وهو ما دفع بالعماد جوزيف عون الى الطلب من رئيسَي الجمهورية والحكومة ميشال عون وسعد الحريري عقد اجتماع عاجل للمجلس الأعلى للدفاع، لوضع استراتيجية لكيفية التعامل مع الوضع على الأرض، بعدما كان قد سمع منهما، خارج الاجتماع، توصية بعدم ترك الأمور للجنود الموجودين على الأرض، وربط أي خطوة ذات طابع دفاعي أو هجومي بقرار يصدر عنه مباشرة. وهو ما تكرس في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، مع إضافة أن يعود قائد الجيش الى عون والحريري قبل اتخاذ أي خطوة عملانية.
طلبُ عدم تدخل المقاومة في أي مواجهة مع العدو يهدّد إنجازات نضال عمره عقود من الزمن


هذا «الارتباك» الواضح كشَف عن عمق التأثيرات التي تنتج من هذا المستوى غير المسبوق من التنسيق بين الجيش والجانب الأميركي من جهة، وعن تعزيز فرضية ــــ لم تكن حاضرة قبلاً ــــ بأن لبنان لا يقدر على الدخول في مواجهة مع العدو. وفي هذه النقطة، تبدو الخطوة، سواء صدرت عن الحكومة أو عن قيادة الجيش، كأنها امتثال للإرادة الأميركية بعدم الذهاب نحو أي نوع من الصدام مع العدو، وبالتالي، «عدم الاتكال على أحد». وفي هذه النقطة تحديداً، يكون لبنان الرسمي (الحكم والحكومة والجيش) قد وافق على اعتبار أن المقاومة ليست موجودة كقوة مساندة للجيش في مواجهة أي عدوان إسرائيلي. وهذا ما يعيدنا عملياً الى المناخات التي كانت سائدة قبل أكثر من ربع قرن، والتي تقول بأن «لبنان ضعيف ولا حول له ولا قوة على مواجهة إسرائيل».
على أن الخطير في هذا الملف، ليس حصراً إشعار العدو بأنه قادر على التصرف بحرية وخرق الحدود وتجاوز القواعد المعمول بها، لأنه واثق من عدم وجود قرار بالتصدي له من قبل الحكومة اللبنانية، بل إن الأخطر هو التعايش مع هذه الوقائع الجديدة، بحيث إنه في لحظة مواجهة غير محسوبة، سوف يخرج من الدولة من يطلب عدم تدخل المقاومة. وهو أمر يهدد إنجازات نضال عمره عقود من الزمن، ودفع لبنان ثمنه حياةَ الآلاف من أبنائه والغالي من اقتصاده وبناه التحتية، علماً بأن قيادة المقاومة التي تتعامل مع الأمور بحذر، وبتنسيق عال مع قيادة الجيش، سوف لن تقف مكتوفة الأيدي أمام خروقات موصوفة من قبل العدو، وسوف تبقي في يدها حق المبادرة لمنع العدو من التمادي في اعتداءاته.
لكن، هل صار ضرورياً رفع الصوت والسؤال، عما إذا كان في بيتنا مَن قرّر ــــ ومن طرف واحد ــــ تغيير العقيدة القتالية للجيش؟