عام 1977، أي بعد سنتين على اندلاع الحرب الأهلية، ظنّ المسؤولون في البلاد أن المعارك انتهت يوم وضعت «حرب السنتين» أوزارها. سريعاً بدأ البحث عمّن يتولّى إعادة إعمار ما تهدّم. كان ذلك في عهد رئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس، ورئيس الحكومة الأسبَق سليم الحص. يومَها، كانت الحجة «عدم قدرة الوزارات على تنفيذ المهمات المطلوبة منها بالسرعة اللازمة، لأنها تعاني نقصاً حاداً في الموارد البشرية والمعدات»، فتقرّر إنشاء مجلس «الإنماء والإعمار». وقيلَ إنه قامَ بديلاً عن وزارة التصميم العام، فأُسندت إليه دراسة المشاريع المتعلّقة بالتنمية والإعمار تحتَ وصاية رئاسة مجلس الوزراء، بعدما مُنِح صلاحيات التقرير والرقابة والاستدانة والإقراض من مجلس النواب (أعيدت هذه الصلاحيات إلى البرلمان في عهد الرئيس حسين الحسيني عام 1986). مجلس الإنماء والإعمار عاد اسمه وارتبط برئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، بصفته رمزاً للفعالية في إنجاز المشاريع، بعيداً من البطء الذي تسببه بيروقراطية الوزارات. لكن الوقائع لا الادعاءات، ثبُت أنه ليسَ سوى صندوق طغى عليه الطابع الخدماتي وفق نظام المحاصصة، وشريك في تنفيذ السياسة التي جعلت لبنان من أسوأ بلدان العالم في مجال البنية التحتية.لا ضرورة اليوم للبحث عن المشاريع التي نفّذها هذا المجلس، وكم أنفقَ من الأموال وعمّا إذا كانت الغاية من إنشائه قد تحقّقت. الإجابات حاضرة في كل شارع وزاوية ورصيف. عند كل مفترق طريق وجسر ونفق. على الأنهر والأتوسترادات وفي أحواض المياه. كلها شواهد، تنفَع في تشكيل مادة عن كيفَ يكون البناؤون هم أنفسهم الهدّامون، بعدَ أن يفتي المسؤولون فيه بتنفيذ مجموعة من المشاريع وصلت قيمتها خلال الأعوام (1992 - 2016) إلى 10.9 مليار دولار (وفق ما يُعلن المجلس)، لتكون النتيجة على شاكلة ما خلّفته العواصف الأخيرة: زخات المطر كافية لإذلال السكان.
الفاعل هنا ليسَ مجهولاً. إنها «السلطة»، ممثلة بمجلس الإنماء والإعمار، الذي كلّما «نُبِشَت» أوراقه، عُثر فيها على نموذج عن فساد الدولة واهترائها: من عدم شرعية المجلس مروراً بالفساد والهدر، وصولاً إلى السمسرات وتوزيع المشاريع وفقَ التصنيف السياسي.
في الشكل، لا بد من الإشارة إلى المشكلة الأساسية المُتعلقة بمجلس إدارة هذا المجلس. فعلى رغم أن مدّة ولايتهم هي خمس سنوات فقط، يستمر أعضاء مجلس إدارة الإنماء والإعمار منذ العام 2009 في عملهم، بعدَ صدور مرسوم عن مجلس الوزراء يقضي باستمرارهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم، ومن ثم قرار آخر من الأمين العام السابق لمجلس الوزراء سهيل بوجي، مدّد لهم خمس سنوات إضافية من دون العودة إلى مجلس الوزراء.
المشكلة هي أن هذا المجلس لم يعُد شرعياً كما يقول إداريون فيه. فبحسب القانون، يجِب أن يؤلّف مجلس الإدارة من أعضاء يتراوح عددهم بين 7 و12 عضواً. وبعد وفاة عضوين في المجلس استقرّ العدد على خمسة فقط. هم: نبيل الجسر (مستقبل)، ونائبه ياسر بري (حركة أمل)، الأمين العام غازي حداد (محسوب على رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان)، مالك العياص (الحزب التقدمي الاشتراكي) ويحيى السنكري (محسوب على آل كرامي). وبفعل هذا الواقع أصبح تأمين النصاب الذي يحتاج إلى النصف زائداً واحداً مرهوناً بحضور الخمسة، كذلك اتخاذ القرار، فأصبحوا (الأعضاء الخمسة) كلهم «رؤساء» يملك كل منهم حق الفيتو. وباتوا مضطرين لمسايرة بعضهم البعض في إدراج المشاريع على جدول أعمال الجلسات والموافقة عليها لتأمين نصاب الجلسة التي تُعقد مرة في الأسبوع. ساعد ذلك على انتفاء مفهوم الأكثرية مما أدى إلى تعطيل الكثير من القرارات أو تمريرها بفعل التوافق. حتى إن بعض الإداريين ينفون اجتماع الخمسة فيؤكدون أن مشاريع البلد مرهونة باجتماع ثلاثة هم «الجسر وبري وحداد»!
في الجلستين الأخيرتين لمجلس الوزراء طرحَ الحريري استبدال رئيس مجلس الإدارة بآخر


لكن عدم شرعية مجلس الإدارة لا تتجاوز الـ1 في المئة من «ارتكاباته». فمن جملة المشاكل التي يشير إليها إداريون هي «التلزيمات التوافقية التنفيعية» للمتعهدين المصنفين سياسياً، بين 8 و14 آذار. يقول هؤلاء أن «أغلب المقاولين الذين يفوزون بالمشاريع هم تابعون لتيار المستقبل والقوات اللبنانية. فيما حصّة حركة أمل من التلزيمات تعود إلى شركتين. وتنضم إلى جملة المقاولين شركة تعتبر داخل المجلس بأنها ترضي جميع الأطراف». أما كيفية توزيع المشاريع فتتم إما بالتوافق بين أعضاء الإدارة، وإما بالتراضي بين المقاولين أنفسهم على قاعدة أن «لكل واحد دوره». وفي بعض الأحيان يتم الإيعاز إلى مقاول محدد لتقديم عرض يتوافق مع دفتر الشروط الموضوع للفوز بالمناقصة، بحسب مصدر إداري. أما الفضيحة الكبرى التي بات يتم التعامل معها كما لو أنها «أمر عادي»، فتكمُن في أن هذه الشركات الكبيرة تعمد، بعد فوزها بالمناقصة، إلى تلزيم شركات أصغر لتنفيذ المشاريع. فتُعطيها نصف المبلغ التي حصلت عليه أو ربعه ليتبيّن أنها نفّذتها وفق الموازنة التي بين يديها، فتكون النتيجة ليست وفق الشروط المطلوبة أو بحجم الأموال التي صرفها مجلس الإنماء والإعمار.
مكامن الهدر والفساد في هذا المجلس لا تنحصر وحسب بالتلزيمات وتنفيذ المشاريع، وإنما تتوسع لتطاول الدراسات. يعود أحد الإداريين في المجلس إلى التسعينات حينَ تقدّمت إحدى الشركات اللبنانية بالشراكة مع شركة أجنبية لتنفيذ دراسات لمشاريع إنمائية. يومها طلبت الشركة من مسؤولي الإدارات الست في المجلس مدّها بدراسات سبق أن أعدّتها، فأعادت توضيبها وترتيبها وحولتها إلى مسودة دراسة وتقاضت في مقابلها مبلغ مليونين و700 ألف دولار!

بلا حسيب ولا رقيب
«لو لم يتخلّ المسؤولون في البلاد عن دورهم لما وصلت الأمور في مجلس الإنماء والإعمار إلى هذا المستوى»، يقول إداريون في «الإنماء والإعمار». فالمشاريع التي تصل إلى البرلمان ليوافق النواب على تمويلها (سواء من الخزينة مباشرة أو من القروض) لا يتابعها أحد. النواب المعنيون بالمحاسبة والرقابة لم يكلفوا خاطرهم الكشف عن المشاريع التي نفذها المتعهدون والتأكد من مطابقتها للشروط والمواصفات المطلوبة، فأصبح مجلس الإنماء والإعمار يُدار بلا حسيب أو رقيب.
قبلَ الانتخابات النيابية الأخيرة التي أجريت في شهر أيار الماضي، حاولَ الرئيس سعد الحريري إجراء تغيير جزئي في مجلس الإدارة. وجرى التداول حينذاك بمعلومات تفيد بأنه قرر تعيين مستشاره لشؤون النازحين نديم الملا على رأس المجلس. وفي آخر جلستين عقدهما مجلس الوزراء قبل اعتبار الحكومة مستقيلة، طرحَ الحريري استبدال نبيل الجسر (الرئيس الحالي) بشخصية أخرى، علماً أن الجسر هو من حصّة تيار المُستقبل أصلاً. غيرَ أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون رفض الاقتراح، انطلاقاً من أن «مجلس الإدارة كلّه يجب تعيينه من جديد». وعشية تشكيل الحكومة يعود هذا الملف إلى الواجهة من جديد. فهذا الصندوق المعني بتنفيذ معظم مشاريع البنى التحتية في البلاد، ويضع يده على مئات ملايين الدولارات لمشاريع لم تنفّذ بعد، يتحضّر أيضاً لاستلام مجموعة من مشاريع من مؤتمر «سيدر»، تحديداً تلكَ التي تُعنى بقطاعات النقل والاتصالات والكهرباء والنفايات. الأمر الذي يرى إداريون أنه يحتّم إدراج ملف مجلس إدارة «الإنماء والإعمار» كبند «سريع» على جدول أعمال الحكومة العتيدة. لكن تبقى مشكلة أساسية، لا تُعالَج بتعيين بدلاء عن الأعضاء الحاليين، وهي غياب السياسات ومراقبة تنفيذها: فالدولة التي يمثل مجلس الإنماء والإعمار إحدى أدواتها التنفيذية، لا تخطّط. وعندما تضع مشروعاً بلا خطة، لا تراقب تنفيذه، سواء نفذته وزارة، أو مجلس لا ينتج إنماءً ولا إعمار.