سجّلت الأسواق المالية أمس ارتفاعاً مزدوجاً في أسعار فائدة الانتربنك (الفائدة على اقتراض مصرف من مصرف آخر، ليوم واحد) التي وصلت إلى 75% بعدما كانت 55% أول من أمس، وفي سعر شراء الدولارات من الصرافين الذي تجاوز 1520 ليرة. ارتفاع هذه الأسعار بدأ يصبح ملحوظاً قبل أكثر من ثلاثة أسابيع مع ارتفاع فائدة الانتربنك إلى 10% ثم 20% و55% وصولاً إلى المستوى الذي بلغته أمس.اللافت أنه لم تكن هناك أحداث مستجدّة تبرّر هذا الارتفاع الكبير في سعر الانتربنك وسعر شراء الدولار كما حصل قبل نحو سنة حين احتجزت السلطات السعودية رئيس الحكومة سعد الحريري، بل هو يأتي نتيجة عطل في بنية النظام المالي تراكمت نتائجه على مدى السنوات الماضية ما أدّى إلى هذا الارتفاع القياسي الذي يعكس درجة أخطار مرتفعة. هي مزيج من الأخطار السياسية والاقتصادية والنقدية المأسورة بعامل الخوف والقلق من المجهول. فليس هناك ما يشير إلى مصير إدارة البلد السياسي، وليس هناك ما يدلّ على أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي يشهدها لبنان قد تمرّ بلا أثمان كبيرة يدفعها اللبنانيون، خصوصاً ذوي الدخل المتوسط وما دون، وليس هناك ما يشير إلى أن الطبقة الحاكمة التي تدرك وجود لبنان وسط هذه الأزمة، تملك أي مفتاح للحلّ. ومن الدلالات على هذه الأخطار، أن عدداً من المصرفيين يتحدثون عن خروج ودائع من لبنان في الشهر الماضي بقيمة 2.5 مليار دولار. هذا يعني أن المودعين يتعاملون مع التطورات السياسية والمالية بقلق وخوف، ما يدفعهم إلى تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار ثم سحبها من لبنان وتحويلها إلى حسابات في الخارج قد تكون عبارة عن فروع مصرفية للمصارف اللبنانية أو على مصارف أجنبية. هذا الأمر ينطبق على قسم من المودعين ولا يمكن تعميمه، إلا أنه يعدّ مؤشّراً على حجم الطلب على الدولار.
هكذا يصبح هناك تفسير أوضح لكل هذا الطلب على الدولار وارتفاع سعر فائدة الانتربنك. الارتباط بين هذين العنصرين عضوي وأساسي، فالمودعون يضعون أموالهم لدى المصارف ويجمدونها على فترات قد تمتد من شهر إلى خمس سنوات وربما أكثر، وفي المقابل توظّف المصارف الودائع التي حصلت عليها من الزبائن، عند مصرف لبنان أو عبر إقراضها لزبائن آخرين، أو عبر توظيفها في أوراق مالية... وفي كل الأحوال هناك فرق زمني بين مدّة الوديعة ومدّة التوظيفات ما يجعل المصارف تقترض من بعضها البعض ليوم من أجل تأمين السيولة اللازمة لتأمين طلبات الزبائن بتحويل ودائعهم، عند استحقاقها، إلى الدولار...
لم يكن هذا الأمر ليمثّل مشكلة في السنوات الماضية، إلا أن مصرف لبنان بدأ منذ مدة يعمل على امتصاص السيولة من السوق لتجفيف الأسواق من الليرة، ليحقق هدف كبح الطلب على الدولار ومنع التضخم الذي يمكن أن تحدثه السيولة في السوق. وبالتالي لم تعد هناك سيولة كبيرة في السوق، ما جعل المصارف التي تملك السيولة ترفع سعر فائدة الانتربنك، أو إقراض مصارف أخرى من يوم ليوم.
المشكلة تكمن في نتيجة هذين العاملين. فالمصارف لا تملك الدولارات بل تضعها عند مصرف لبنان، ولا تملك سيولة كافية بالليرة لتلبية طلب الزبائن ما يدفعهم، وفي غالب الأحيان بتوجيه من المصارف وموظفيها، إلى محاولة إيجاد الدولارات لدى الصرافين. آليات عمل الصرافين تختلف نوعاً ما عن المصارف. فالصراف لا يحصل على الدولارات من مصرف لبنان، بل يحصل عليها عبر شحنها من الخارج ويدفع ثمن قيمة العمليات المجمّعة عبر المصرف الذي يتعامل معه، أي أن التسعير بين الصراف والمصارف يكون بالجملة خلافاً للعلاقة بالمفرق التي تنشأ بين الصراف وزبائنه. هذا الأمر يجعل تسعير الليرة مقابل الدولار خاضعاً لآليات العرض والطلب في السوق غير الرسمية. الخطر هو أن يفلت تسعير الليرة من يد مصرف لبنان ويصبح الأمر بيد سوق غير نظامية.
يضاف إلى هذه العوامل أنه في نهاية كل سنة، تبدأ المصارف بالتنافس على جذب ودائع من مصارف أخرى من أجل تحسين أرقام ميزانياتها والتفاخر بحجم ودائعها وأصولها وموجوداتها، وهو ما يدفع بها إلى تقديم إغراءات للزبائن لنقل ودائعهم إليها، في مقابل قيام الزبائن بطلب فوائد مرتفعة للموافقة على عملية النقل. هذا الأداء يسهم أيضاً في تقليص السيولة لدى مصارف وزيادتها لدى مصارف أخرى ويُسهم أيضاً في رفع فائدة الانتربنك.
المشكلة لا تكمن في جفاف السوق من السيولة، ولا في الطلب على الدولار، ولا في تنافس المصارف، بل في ترابط هذه العوامل وأسبابها. غالبية التقارير التي نشرتها جهات دولية تتابع الأوضاع في لبنان، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومصرف غولدمان ساكس وغيرهم، وعلى رغم بعض الاختلافات في منهجية التشخيص، إلا أن توصيفهم يكاد يجمع على أن ما يحصل في لبنان هو أزمة في بنية النظام الذي لم يعد قادراً على اجتذاب الدولارات من الخارج، فيما لديه حاجات تمويلية كبيرة ناجمة عن عجز كبير في الميزان التجاري وعجز كبير في الخزينة. الكل يبحث اليوم عن القشّة التي ستكسر ظهر البعير!