من دون ان يغض النظر تماماً عنها، لا تزال «فكرة» توجيه رئيس الجمهورية ميشال عون رسالة الى مجلس النواب، عملاً بالفقرة 10 في المادة 53، واردة كأحد الخيارات المتاحة، لكنها ليست آخرها. تبعاً للمطلعين عن قرب على موقفه، يدرك ان مآلها محدود الاثر، وليس من شأنها حتماً الوصول الى تأليف الحكومة، ولا ايجاد حل لتكليف بدأ ولا احد يعرف متى ينتهي؟ بذلك رمى لقاءا عون برئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس المكلف سعد الحريري، على نحو مفاجىء في توقيته، الى البحث معهما في الخيارات. عنى كذلك ان:1 - رئيس المجلس معني بالتشاور بإزاء مؤدى رسالة لا يريدها ان تكون «كرة نار» بين يديه - تعبير سبق لبرّي ان اضفاه عليها عندما اثير احتمال توجيهها للمرة الاولى في ايلول الفائت - ينجم عنها اضطراب في مجلس النواب الملزم مناقشتها. في وقت سابق، حينما سئل عن جدوى توجيه الرسالة، لفت الى محاذيرها «المذهبية» نظراً الى مقاربتها للمرة الاولى باباً لم يُطرق بعد، هو صلاحيات رئيس مكلف تأليف الحكومة. خشي برّي من ان تتسبب في سجال طائفي ومذهبي مفتوح داخل البرلمان يضاعف من وطأة الخلافات والانقسامات وينقل الاشتباك الى داخله من غير ان يكون معنياً به. كان قد لفت، في مناسبة اخرى، الى تعذّر سحب التكليف من الرئيس المكلف للسبب نفسه الذي يتوجس منه، وقال في ذلك الحين انه بات يثقل على كل استحقاق، وهو ان يُفسّر سحب التكليف على انه - شأن الوصفة المعدّة سلفاً - يستهدف الطائفة المعنية به.
لم يُشر رئيس المجلس مرة الى أبواب دستورية موصدة حيال تكليف يتجاوز المهلة المنطقية والطبيعية للتأليف، ولا أيّد القول انه امتياز غير قابل للمناقشة يتمسك به صاحبه الى ما لا نهاية. الا انه يرى التوقيت الحالي للخوض في هذا السجال خارج اوانه الآمن، في معزل عن ضرورة ايجاد مخارج للالتباسات الدستورية.
على نحو كهذا بدا رئيس الجمهورية مهتماً بالتشاور مع رئيس المجلس بإزاء الخيارات المتبقية المتاحة، احداها الرسالة.
2 - لا يريد عون من توجيهه المحتمل الرسالة توظيفها من اي احد، على انها تستهدف الرئيس المكلف بالذات، او تشكك في رغبته في استمرار التعاون معه، او كأنه يريد التخلص منه. لا يزال يعدّه شريكه الاول في الحكم، وتبدو مقاربته للرسالة شبيهة باستخدامه في نيسان 2017 صلاحيته المنصوص عليها في المادة 59 من الدستور، القاضية بالطلب الى مجلس النواب الامتناع عن الالتئام شهراً كاملاً.
يومذاك لم يكن اللجوء الى هذه الصلاحية، للمرة الاولى، اعتداء على رئيس المجلس وعلى المجلس بالذات، مقدار ما انطوت على تشجيعه على الذهاب الى قانون جديد للانتخاب، والحؤول دون مسعى كان معلوماً انه رمى الى تمديد ثالث للبرلمان دونما اقترانه بقانون جديد للانتخاب، وبغية تعطيل اجراء الانتخابات النيابية العامة. كذلك الامر بالنسبة الى الفقرة 10 في المادة 53، اذ تُستخدم هذه المرة على نحو مغاير لمرات ثلاث سابقة اعوام 1998 و2005 و2014. يطلب تدخّل مجلس النواب - صاحب الاختصاص الدستوري في التكليف - للمساعدة على ايجاد مخرج لمشكلة بات الافرقاء جميعاً يعرفون ان ثمة اكثر من حل ممكن لها.
لكن احداً لا يملك ان يفرض على الآخر حلاً لا يرضيه. ذلك ان اصرار الحريري على رفض توزير احد من النواب السنّة الستة، يجعله منسجماً مع نفسه واقتناعاته الشخصية وحيال طائفته، لكنه لا يصنع منه رئيساً للحكومة. كذلك النواب الستة هؤلاء ونظيرهم القوي حزب الله تحوّلوا الى عقبة رئيسية للحريري وصلاحياته المنصوص عليها في المادة 53 كرئيس مكلف فحسب. لم تعد هذه، بالممارسة، سوى حبر على ورق. يجهر بها وعاجز عن تطبيقها، وعن فرض تطبيقها بالتأكيد.
3 - الى اليوم لم تثبت الفقرة 10 في المادة 53 جدواها اذ يستخدمها رئيس الجمهورية، ولا جدية تعاطي مجلس النواب معها وصدقيته. في المرات الثلاث السابقة اكتفت الهيئة العامة بتلاوة الرسالة، ثم ناقشتها من غير ان تفضي بها الى نتيجة ملموسة سوى طيّ صفحتها كأنها لم تكن.
اولى الرسائل للرئيس الياس هراوي في 19 آذار 1998، عندما حض مجلس النواب على تأليف الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية. كان خارجاً لتوه من خلاف حاد مع رئيس الحكومة رفيق الحريري الذي تجاهل اقرار مجلس الوزراء اقتراح الرئيس قانوناً اختيارياً للاحوال الشخصية صوّت عليه 21 وزيراً في حكومته الثلاثينية، اي ما يتجاوز ثلثيه. شأن ما يفعل الحريري الابن بوضع التكليف في صندوقة والاقفال عليه، فعل الحريري الاب من قبل بأن احتجز قرار مجلس الوزراء في 18 آذار في جاروره، وسارع الى طلب نجدة دار الافتاء والمرجعيات الاسلامية كي ترفض بدورها اقتراح رئيس الجمهورية. هذا الاقتراح - الى اليوم - لا يزال في ادراج السرايا.
3 رسائل رئاسية بين 1998 و2014 دُفنت في محلها


على غرار ابيه، لكن من دون ان يشبهه ابداً، طلب الحريري الابن نجدة دار الافتاء، امس وقبل الامس للمرة الاولى، كي ترفض ما سمّاه عُرف التعرّض لامتياز التكليف.
ثانيتها للرئيس اميل لحود الى مجلس النواب في 4 ايار 2005، داعياً اياه الى وضع قانون جديد للانتخاب تفادياً للعودة الى قانون 2000، في مرحلة شرخ وطني حاد بين قوى 8 و14 آذار. تليت الرسالة ونوقشت بسخونة بين مَن ضدها وضد لحود ومَن دافع عن الاثنين. ثم نامت في الكهف.
ثالثتها للرئيس ميشال سليمان في 21 ايار 2014، قبل اربعة ايام فقط من انتهاء ولايته، داعياً البرلمان الى انتخاب خلف له قبل فوات المهلة الدستورية. شأنأختيها، تليت وغفت طويلاً، بدليل امرار شغور رئاسي طوال 890 يوماً.
إطلع رئيس الجمهورية على وقائع الرسائل تلك، ويدرك انه لا يتوقع من الرسالة الكثير، وربما لا شيء حتى. بيد ان وقوعها في صلاحياته الدستورية يوجب عليه تحريك المياه الراكدة في ازمة حكومية، توشك بعد اسبوعين على دخول شهرها الثامن من دون آمال في حل لها. لا يتعامل معها على انها «الخرطوشة الاخيرة»، بل احد الاحتمالات المتداولة، خصوصاً وانه يسعى - اذ يخاطب بها مجلس النواب - الى التوجه الى الرأي العام اللبناني كي يكون على بيّنة من الاسباب التي تراكم ازماته الاقتصادية والاجتماعية والمالية والتهديدات الاسرائيلية وعبء النزوح السوري.