في جلسة الاستماع التي خصصتها لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، في أيار الفائت، سئل وزير الخارجية الأميركي مارك بومبيو عن احتمال تغيير سياسة واشنطن بعد نتائج الانتخابات النيابية في لبنان، وعما إذا كانت مصلحتها تقتضي إحداث تغييرات في سياستها الاقتصادية والأمنية لتطويق حزب الله وإيران وما يمكن عمله لسحب سلاح حزب الله. كان بومبيو واضحاً في جوابه، حين اعتبر أن مشكلة حزب الله لم تعد في لبنان فحسب، بل في سوريا أيضاً. واستطرد في الحديث عن أن توازن القوى في لبنان بعد الانتخابات «ليس جيداً في ذاته» وعن تحدي الولايات المتحدة الحقيقي لعودة لبنان أمة عظيمة، وعن استمرار دعم الجيش للحفاظ على الأمن، لكنه دعا الى إعادة النظر بمساعدتها هذه للتأكد من أن أموال دافعي الضرائب تدفع في المكان المناسب.كلام بومبيو كان بداية اللحظة التي بدأت ترتفع فيها أصوات «رسمية» من قلب الإدارة الأميركية في واشنطن، وليس أصوات نواب أو شيوخ معادين لحزب الله، بشأن لبنان بعد نتائج الانتخابات النيابية، والتقدم الواضح للحزب وحلفائه، نتيجة قانون الانتخاب القائم على النسبية. لكنه بدأ يأخذ صداه، بعدما توسع النقاش في دوائر القرار الأميركي، في ضوء المفاوضات لتأليف الحكومة، وصولاً الى بدء سريان العقوبات على إيران وتمددها نحو حزب الله.
هناك مستويان رسميان تتعاطى بهما واشنطن مع لبنان، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة. مع الأولى تحتفظ بعلاقات رسمية، لم ترتفع حرارتها مع انتخاب العماد ميشال عون، لكنها لم تتراجع، وإن لم تسجل لقاءات رسمية رفيعة على مستوى الرئاسة أو وزارة الخارجية، في واشنطن، والسفير اللبناني في واشنطن المحسوب على العهد لم يتمكن من تحقيق خرق استثنائي على مستوى العلاقات، علماً بأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا تنظر بود كبير الى رئيس الجمهورية وتحالفه مع حزب الله، وما تراه «انفتاحاً واسعاً غير مبرر على موسكو، الذي لا يقدم للبنان أي شيء عملي». لكن واشنطن نفسها تعاملت بإيجابية مع تصرف عون إزاء أزمة استقالة الرئيس سعد الحريري، وموفدوها تعاملوا «بإيجابية» أخيراً مع تصرفه في تأليف الحكومة، وخصوصاً لجهة عدم تعزيز حصة 8 آذار.
مع رئاسة الحكومة، ومع وجود الحريري الذي استقبله الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تموز الفائت استقبالاً لافتاً في البيت الأبيض، يمكن القول إن الدفة تميل نحو الحريري في شكل لا يحمل أي التباس. يبقى أن حرص واشنطن الدائم يكمن في مؤسستين: الجيش الذي يحل في المرتبة الأولى بنسبة دعمه، والقطاع المصرفي الذي تحرص على سلامته، كون الطرفين يؤمنان الاستقرار الداخلي الأمني والاقتصادي. وحتى الآن، كان التعامل مع الأطراف الأربعة لا يزال مضبوط الإيقاع من دون أي تململ علني، بل إنّ كل الكلام العلني يتمحور حول دعم لبنان واستقراره، أما في الكواليس فكلام آخر.
في الآونة الأخيرة، ساد انطباع يدعو الى القراءة المعمقة للموقف الأميركي الحقيقي من لبنان، في ضوء مجموعة من الأسئلة نتجت من لقاءات في بيروت وواشنطن مع مسؤولين أميركيين. الأسئلة المركزية التي تستنتجها مصادر لبنانية التقت بمسؤولين في الإدارة الأميركية يمكن تلخيصها بالآتي: هل لا يزال لبنان أولوية بالنسبة الى إدارة ترامب، وهل تريد واشنطن الحفاظ على استقراره وهي تعتبر أنه يجنح نحو حزب الله؟ ولأي سبب تريد الحفاظ على استقرار بلد باتت تعتبر أن نفوذ حزب الله يتوسع فيه؟ ولماذا تريد مد لبنان بالمساعدات العسكرية والدعم السياسي الدولي، طالما أنه بات يعطي لحزب الله الذي تريد واشنطن حصاره مالياً وعسكرياً، موقعاً متقدماً في معادلة الحكم؟ وأليس الأفضل التخلي عنه لمصلحة دول أكثر تعاوناً وأكثر تصالحاً مع توجهات واشنطن؟ هذه هي النقطة المركزية في موضوع العقوبات والتحذيرات المتتالية الى المسؤولين اللبنانيين، بما هو متقدم أكثر من مفاوضات تأليف الحكومة ودور حزب الله فيها.
فالمقصود أن العقوبات حتى الآن تتناول أشخاصاً ومؤسسات ولم تتحول بعد الى عقوبات جماعية تتناول لبنان، وسبق أن تمكنت المصارف والمؤسسات المعنية من القفز فوقها. لكن مع ذلك، بدأت التحذيرات للمصارف وللبنان لتطبيق «حَرفي» للعقوبات. وكذلك بدأت جماعات الضغط تتحدث في الولايات المتحدة عن الهدف من إمداد الجيش بالسلاح والحفاظ على الأمن والاستقرار فيه، ليس لعدم الثقة بأدائه العسكري، أو حتى للحفاظ على التهدئة جنوباً، إنما لمغزى دعمه، فيما يتحفظ معارضو المساعدات على علاقة الجيش بحزب الله.
والقضية المحورية، اليوم، ليست في نوع العقوبات التي يمكن أن يتعرض لها لبنان، بل في القرار المركزي الذي يمكن أن يتخذ في ضوء أجواء الضغط في اتجاه «التخلي عن لبنان»، لأنه لم يعد يمثل أولوية قصوى في المنطقة، بعدما تبدلت اتجاهاته. ما سئل عنه بومبيو، وما أجاب به جزء بسيط من الأجواء التي ترِد من واشنطن، وتتحدث عن أسئلة تتردد منذ نتائج الانتخابات النيابية، وصولاً الى «عدم اكتراث لبنان» بالرسائل الأميركية الشفهية، ويقال المكتوبة أيضاً، «المحذّرة من مغبة توسيع نفوذ حزب الله في الحكومة، بعد مجلس النواب واستطراداً تحوله إلى أحد الأركان السياسية الأساسية في إدارة دفة الحكم».
«توسع نفوذ حزب الله»، هي الكلمة المفتاح التي تتردد على ألسنة الدبلوماسيين الأميركيين والموفدين الى لبنان والشخصيات التي تعقد لقاءات مع لبنانيين في واشنطن، بحسب مسؤولين لبنانيين حضروا هذه اللقاءات. والقضية ليست مجرد حصول الحزب على وزارة الصحة، رغم ما تؤمنه من تقديمات اجتماعية، بل هي أيضاً دليل، في رأي الأميركيين، على أن «الحزب لا يكترث بمصلحة لبنان وسلامته. فإذا كانت العقوبات الأميركية ستصل الى حد قطع المساعدات عن الوزارة إذا تسلمها حزب الله، وإذا كان الحزب يمكن أن يعطيها لحليفه الرئيس نبيه بري أو أي أحد من حلفائه أو أي شخصية شيعية معتدلة، ويحصل منها على ما يريده بطريقة غير مباشرة، فلماذا إصراره على توليها، رغم علمه بما يمكن أن يتعرض له لبنان بسببها، ألم يكن في الإمكان تفادي هذه الوزارة من دون ضجة سياسية وإعلامية، واستبدالها بأخرى على وزنها من دون استفزاز أي طرف؟ هل فقط لأن حزب الله لا يريد أن يظهر بمظهر الذي ينصاع لرغبة الأميركيين؟ واستطراداً، لماذا يصر حزب الله على توزير حلفائه السنة، وتوسيع حصته في الحكومة، ألا يصب كل ذلك في مصلحة توسع قاعدة حزب الله في الحكم؟».
هذه الأسئلة، معززة بتحذيرات سبق الكلام عنها حول وزارة الصحة، ودعم الجيش، لا تزال في إطار نقاشات، لكنها أخيراً بلغت مستوى أكثر تقدماً. ومع إدارة ترامب، لا شيء يمكن توقعه، في أن تأخذ الأمور منحى غير محسوب النتائج.
المشكلة أيضاً تكمن في أن لبنان على كل مستوياته لا يزال يتصرف، وكأنّ لبنان حاجة دولية وإقليمية كي تظل مظلة الاستقرار فوق رأسه. وهذا ليس هو واقع الحال اليوم. والأجوبة اللبنانية التي يسمعها الموفدون الدوليون أو الدبلوماسيون في بيروت وواشنطن، لا تكفي وحدها لشرح وجهة النظر الداخلية من العقوبات أو من محاولة تبديل الانطباعات السائدة أميركياً. كذلك فإن لبنان غائب عن مواجهة الحملة الأميركية داخلياً، لا على مستوى مجلس النواب، علماً بأن الرئيس نبيه بري سبق أن أرسل وفداً نيابياً الى واشنطن لشرح موقف لبنان، ولا على مستوى الحكومة ولا العهد. فالمرحلة لا تزال مرحلة نقاشات، والخطورة أن تتحول الى قرارات. وحينها سيكون لبنان أمام تحديات من نوع آخر.