حين يلف الضباب الخريفي إهدن، تكون السكينة قد دخلت إلى بيوتها. هكذا هي حالها كل عام، حين تفرغ منازلها ويعود أهلها إلى بيوتهم في زغرتا. لكن هدوء هذه السنة، خرقه وقع المصالحة التي غسلت دماء سالت قبل أربعين عاماً. في قضية حفرت عميقاً في الوجدان الماروني، يصبح الكلام في السياسة، وان كان المعنيان زعيمين سياسيين، أقل من وقع المصالحة نفسها. لأن 13 حزيران 1978، هو أولاً وآخراً، ذكرى عائلة اغتيلت، ذكرى أب وأم وابنتهما الطفلة، وذكرى شبان راحوا ضحية مجزرة عبثية. وهي أيضاً في الأساس ذكرى تخص ابناً كان في الثانية عشرة من عمره حين قتلت عائلته فحضنه جده يوم المأتم في صورة لا تنسى، وهو يودع عائلته. «خيط رفيع من الدم»، كما يقول جورج فرشخ، هو الذي حفر عميقاً عام 1978، كما حفر في أواخر الثمانينات بين القوات والعماد ميشال عون. وكما طويت هذه الصفحة في تفاهم معراب، على رغم كل الشوائب اللاحقة، كان لا بد أن يقفل ملف مجزرة إهدن، ليس على زغل، بل على حقيقة كان الطرفان واعيين لأهميتها.
فرنجية سبق أن أقفل صفحة خلافه مع حزب الكتائب، الذي كان رسمياً مسؤولاً عما حصل في إهدن(هيثم الموسوي)

لأن سليمان طوني فرنجيه هو المعني بما حصل في إهدن يوم 13 حزيران، يأخذ الحدث طابعاً إنسانياً ووجدانياً تحضر فيه المآسي والجروح ومعها قرار بطي صفحات سود من تاريخ الموارنة الدموي، وإقفال ملف ما جرى قبل أربعين عاماً، مع كل تداعياته. بالأمس احتفلت فرنسا بذكرى انتهاء الحرب العالمية الأولى فقرعت أجراسها، وبالأمس أيضاً قرعت أجراس بشري في لحظة خاصة تعني بشري وإهدن، وهما اللتان على رغم ما جرى 13 حزيران، حافظتا على علاقة طيبة.
أهمية الحدث من الزاوية الإنسانية لا يعني أنه يمكن التعامل معه كحدث ابن ساعته، أو منفصل سياسياً عن مجريات السنوات الماضية. فعبرة لقاء بكركي، أنه كرس «رسمياً» المصالحة بين فرنجية ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، كخاتمة لمسار طويل بدأه فرنجية نفسه قبل سنوات. علماً أنه سبق والتقيا في بكركي وتصافحا في لقاء القادة الموارنة الأربع عام 2011 برعاية البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي.
قبل سنوات طويلة تعامل فرنجية مع مقتل عائلته من موقع الذي لا يقبل أن يزايد فيه عليه أحد، بمن فيهم حلفاؤه. القوات تنفي علاقة جعجع بالحادثة لأنه أصيب قبل العملية، لكن ذلك لم يمنع خصوم جعجع، مسيحيين وغير مسيحيين، من المثابرة على زج اسمه بما حدث. لكن فرنجية سبق أن أقفل صفحة خلافه مع حزب الكتائب، الذي كان رسمياً مسؤولاً عما حصل في إهدن، حين لم تكن القوات اللبنانية موجودة بالمعنى الذي أصبحت إليه لاحقاً. صعد رئيس حزب الكتائب جورج سعادة إلى إهدن مع وفد من المكتب السياسي، وزار الراحل روبير فرنجية بكفيا مرات عدة والتقى الرئيس أمين الجميل، الذي كان زار زغرتا والتقى الرئيس فرنجية عام 1986. أقفل فرنجية مراراً ملف إهدن عندما كرر أنه يصفح عن كل من ساهم في قتل عائلته، وهو فعلاً أقفل الكثير من ملفات تعود إلى تلك المرحلة. رفض فرنجية حين بدأت محاكمات جعجع في التسعينات، وأيام المجلس العدلي وانفجار كنيسة سيدة النجاة، أن تضم حادثة إهدن إلى الملفات المفتوحة رفضاً نهائياً. ولعل مساهمته في تحييد المؤسسة اللبنانية للإرسال والوقوف إلى جانبها وعدم تسليمها إلى الرئيس رفيق الحريري ومحاولات دمشق وضع اليد عليها، تعد أيضاً من ضمن مسار سعيه الدائم إلى الفصل بين ما حصل لعائلته وبين مجريات الوضع الداخلي.
لم يتراجع فرنجية يوماً عن إظهار موقفه، ومع مرور السنوات كان ملف العلاقة مع الكتائب يقفل، كما لاحقاً مع القوات، من دون أن تتم القفزة الكبرى لإلغاء الفجوة مع جعجع. في كل هذه السنوات، بقيت إهدن وبشري على علاقة جيدة، وساهمت سنوات الحرب والسلم في انسحاب أي عنصر توتر، لذا يصح الكلام عن أن اللقاء ليس حدثاً فوقياً، بل يأتي ليكرس الخطوات التي سبق وجرت على الأرض منذ سنوات. لقاءات النائبة ستريدا جعجع والنائب السابق أنطوان زهرا من جهة ونواب زغرتا ووزراؤها تشي بذلك. على مدى السنوات الأخيرة، سواء داخل اللجان المشتركة أو خارجها، كان تطبيع الوضع على الأرض يصب لمصلحة الطرفين. من دون أن يتخلى المردة والقوات عن علاقاتهما وتوجهاتهما السياسية المتعارضة. لم يقف جعجع إلى جانب فرنجية حين أصبح الأخير مرشح الرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الجمهورية. لا بل ذهب إلى ترشيح ميشال عون وانتخابه فأقفل الباب أمام فرنجية. ولم يتحالف الطرفان في الانتخابات النيابية ولم يتوافقا في كثير من المحطات السياسية. لكن على رغم ذلك ظلت التهدئة بينهما ثابتة. حتى حين تسرب فيديو النائبة جعجع من أستراليا، سارع فرنجية وجعجع إلى تطويق ذيوله. في الأشهر الأخيرة سجل تقدم كبير على خط المصالحة الداخلية. زار نديم بشير الجميل إهدن ووضع إكليلاً من الزهر على ضريح عائلة فرنجية، والتقى سليمان فرنجية وابنه النائب طوني فرنجية، في زيارة تختلف بمعانيها عن الزيارات المتبادلة بين فرنجية وعائلة الرئيس أمين الجميل وابنه النائب سامي الجميل.
حين بدأت محاكمات جعجع، رفض فرنجية أن تضم حادثة إهدن إلى الملفات المفتوحة


سيقال اليوم الكثير عن اللحظة السياسية التي دفعت بجعجع إلى تسريع خطوات المصالحة، واتهامه بأن السبب هو خلافه مع التيار الوطني الحر، وسيقال أيضاً الكثير عن أن فرنجية بخلفية تحالفاته مع قوى 8 آذار أخطأ بلقائه جعجع وإعطائه صك براءة، وسيتلقى الكثير من الانتقادات. وسيقال إن تقاطع المصالح جمع الرجلين وإن لا ثوابت سياسية يمكن أن يلتقيا عليها. لكن بين كل الخطوط السياسية، يبقى دائماً مكان للحظة وجدانية لزعيم سياسي دفع الثمن الأكبر حين قتلت عائلته. وهو حين جمع عائلات شهداء إهدن، كان يعرف أن لا أحد سيقف في وجه المصالحة وختم هذا الملف، لأنه هو ابن العائلة التي قتلت غدراً. كما أنها لحظة زعيم آخر يريد إقفال كل ملفات الحرب التي ترمى عليه مسؤوليتها من دون غيره، على رغم أنه قدم اعتذاراً عن الحرب وما جرى فيها. أبعد من ذلك حقق فرنجية وجعجع، في حضور كل أركانهما، خطوة داخل مجتمع مسيحي يتآكل من الداخل وتنهار قيمه وأدبياته، فساهما في ختم آخر ملفات حروب الموارنة. للمصالحة اليوم قيمة وجدانية بحت، أما تداعياتها السياسية فلها شأن آخر.