ليس استشهاداً عابراً ختم به رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع مؤتمره الصحافي البارحة، إذ اعلن قرار المشاركة في الحكومة الجديدة. استعارته المثل الفرنسي عن «اعمال حقيرة» و«أناس حقيرين»، ليس سوى الدلّ بالاصبع في اكثر من اتجاه من غير ان يسمي، والى اكثر من طرف كان معنياً بمفاوضات التأليف.على مرّ الشهور الستة المنصرمة، وجد نفسه في مواجهة مع الافرقاء جميعاً تقريباً على الحقائب التي يطلبها لحزبه. لم يتردّد في الأيام الاخيرة حتى، في طلب تلك التي يعرف سلفاً انها اصبحت في وادٍ آخر، كالصحة لحزب الله والطاقة للتيار الوطني الحر والاتصالات لتيار المستقبل والاشغال العامة والنقل لتيار المردة.
منذ اليوم الاول طلب الحقيبة السيادية، والحقيبة الوازنة، ونيابة رئاسة الحكومة، ما عنى انضمامه الى اولئك الذين لا يكتفون بتصنيف الحقائب بين مدرارة او مفلسة، او حقائب خدمات وحقائب ثانوية، بل شاركهم في فكرة رفض «الحقيبة الحقيرة» ــــ التي تحدث امس عنها ــــ التي لم يردها، ولا ارادها ايضاً الآخرون. ولأنه شاركهم في هذا التصنيف، وتمسكه بالوصول الى حقائب وازنة، فإن عبارته الاخيرة في المؤتمر الصحافي تقصّدت الكلام ــــ وحصراً ــــ عن «رجال حقيرين» كانوا على مسرح تأليف حكومة الرئيس سعد الحريري.
ما حدث في الساعات المنصرمة، وقاد جعجع وحزبه الى الوقوع في فخ المناورة المضادة، اوحى بأن الرجل هو الخاسر الوحيد في لعبة الاشهر الستة، على وفرة مناوراته وشروطه، وسقوفه العالية تارة والمخفوضة طوراً، وتقدّمه بسرعة الى الامام وتراجعه بالسرعة نفسها الى الوراء.
يكاد يكون وحده مَن طرح الشروط ولم يفز بأي منها. لم ينخرط في تسوية، ولم يُدعَ اليها، ولم يزن ــــ كالحليف غير الحليف وليد جنبلاط ــــ الوقت المناسب كي يمسي في صلب الحل وليس على هامشه. لم يفكر كجنبلاط على الاقل في مغزى اجتماعه برئيس الجمهورية، ما دام يجهر بأن الخلاف مع حزب الرئيس لا مع الرئيس. طوال الاشهر الستة رفع جعجع سيفاً ظُنّ انه فعلاً مصلت على عنق التأليف: مشاركته بشروطه او لا حكومة. اقترن هذا التصعيد بلغز غير مفهوم، البعض نفاه او لمح الى احتمال ان تكون الرياض وراء تصعيده. قيل اكثر من ذلك: لا حكومة ما لم يحز جعجع فيها على الحصة التي ترضيه ويفرضها هو بالذات. قيل ايضاً إن الرئيس المكلف كان اسير هذه التكهنات، الى ان ذهب الى السعودية في 23 تشرين الاول وعاد مبشراً بقرب تأليف الحكومة، مقروناً بعرض ارسله الى جعجع للانضمام الى حكومته.
في نهاية المطاف انقلبت المناورة رأساً على عقب: بدلاً من ان يربك الافرقاء الآخرين بتهديده بعدم مشاركته في الحكومة الجديدة، وضعه الرئيس المكلف امام معادلة معكوسة لم يسَع جعجع التخلص منها: القبول بالحصة التي ابقاها الآخرون له ــــ وهي آخر ما تبقى على الرصيف ــــ او يذهب الى معارضة من خارج الحكومة.
ليس سرّاً ان الرجل لن يكون في وارد استعادة تجارب ثلاث، في اوقات متفاوتة، اثبتت له فشل الرهان على معارضة من الخارج: في حكومات الحقبة السورية حتى دخوله السجن عام 1994، وفي حكومتي الرئيسين نجيب ميقاتي (2011) وتمام سلام (2014). لهذا السبب تيقن رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ان لا خيار له سوى المشاركة في السلطة، والقبول تبعاً لذلك بالحصة التي ستُعطى له، لا تلك التي يطلبها.
لحزب القوات اللبنانية مشكلة عميقة مع معظم الافرقاء المنخرطين في المعادلة السياسية الحالية، وإن بدا انه منهم وشريك لهم. واقع الامر مغاير تماماً:
1 ــــ لا يزال معظم هؤلاء ينظرون الى جعجع وحزبه على انه فريق سياسي يصعب هضمه واندماجهم به، كما لو انه الوجه الوحيد الاخير المتبقي من سني الحرب. قد لا يكون نافراً القول ان احداً منهم، احزاباً اسلامية كما مسيحية، لا يريده في صلب المعادلة. لعل المفارقة ان الحريري اختار جعجع وحده دون سواه من الافرقاء الآخرين يفرض عليه امراً واقعاً، بالقبول بالحصة المعطاة له او مغادرة صفوف الحكومة. لم يسع الرئيس المكلف فرض امر مماثل على زعيم تيار المردة سليمان فرنجيه باصراره هو الآخر على ابقاء الحقيبة الوازنة، الاشغال العامة والنقل عنده، ولم يضعه امام خيار كذاك. وقد لا يسعه ايضاً فرض امر واقع على حزب الله برفض توزير سنّي معارض.
2 ــــ وحده حزب القوات اللبنانية يُمنع من الحصول على اي من الحقائب السيادية، ووحده يُواجَه بفيتو قاطع يمنع وصوله الى احداها، هي بالذات وزارة الدفاع. وحده لا حقيبة ــــ دويلة عنده غير قابلة للتفاوض كيفما تقلّب التأليف، شأن حقيبتي الداخلية والاتصالات لتيار المستقبل، وحقيبة المال لحركة امل، وحقيبتي الطاقة والخارجية للتيار الوطني الحر، وحديثاً حقيبة الاشغال لتيار المردة، وفوقها كلها حقيبة الدفاع لرئيس الجمهورية. منذ مطلع التأليف خرجت هذه الحقائب من اي تفاوض.
في المقابل لم يحز نيابة رئاسة الحكومة لو لم يجهر رئيس الجمهورية بالموافقة على «تجييرها» له، لا على ان الحزب يستحقها. يفسّر مغزى ابقاء هذه الحقيبة في حزب جعجع، ان رئيس الجمهورية، بعدما اصر عليها في حصته كعُرف تقليدي يعود الى عقود طويلة، وقّت بنفسه الاعلان عن استعداده للتخلي عنها لحزب القوات اللبنانية.
استُدرج جعجع الى فخ المفاضلة بين حصة دنيا او الخروج من الحكومة


3 ــــ تكاد تكون القوات اللبنانية وحدها بلا حليف داخلي. ليست كجنبلاط عند برّي، ولا كفرنجيه عند حزب الله، ولا كالتيار الوطني الحر عند حزب الله ايضاً، ولا حتماً كحال حركة امل وحزب الله. لم تصمد ايضاً مصالحتها مع التيار الوطني الحر. لم يعد الموت وحده يفرّق بين الحريري وجعجع، بل كل سبب سياسي. ليس اولها ما حصل في 4 تشرين الثاني 2017 في الرياض، ولا آخرها الحصة التي حددها لها الرئيس المكلف امس، مروراً بموجات من التباعد بدأ منذ الشغور الرئاسي عندما تجاهل الحريري ترشيح جعجع منذ نيسان 2014، وصولاً الى ترشيحه فرنجيه في تشرين الثاني 2015، وانقلاب جعجع على الحريري بترشيحه هو الآخر الرئيس ميشال عون في كانون الثاني 2016. آخر الموجات تبنّي الحريري كل الشروط التي وضعها رئيس الجمهورية لتوزير حزب جعجع.