المتبارزون من السياسيين والمستوزرين، الأوادم منهم والزعران، يفكرون في طريقة واحدة لمعالجة مشكلات البلاد. كل هؤلاء يعتقدون بأن العلاج يكون بتولّيهم هم مقاعد الحكم. ولأن الرئاسات الأولى محجوزة باسم ممثلي الطوائف الكبرى، وبعدما جرت الانتخابات النيابية مثبتة واقع التمثيل السياسي، فإن المكان الوحيد الذي يتصرفون فيه على أنه ملعبهم، هو الحكومة قيد التأليف.طبعاً، أعضاء هذا النادي من المتطوعين والراغبين والطامحين لتولي مناصب وزارية، يعرفون قواعد اللعبة. كل ما عليهم، هو تقديم الولاء لمن بيده الأمر من القوى السياسية. وتقديم أوراق الاعتماد، وانتظار نتائج اللوتو الحكومي. وبعد خروج التشكيلة، ونيلها الثقة من النواب، سيغضب البعض من المستوزرين، ويبدأون بكيل الشتائم للطبقة الحاكمة، ثم يصرخون مطالبين الناس بأن يتحركوا، ويؤسفهم أن أصواتهم لا تُسمع.
الناس من جانبهم يعرفون ما ارتكبته أيديهم قبل عدة أشهر. غالبية ساحقة من الجمهور، أعادت التصويت، ولو بنسب مختلفة، للقوى السياسية النافذة نفسها في البلاد. تراجع هذا وتقدم ذاك، واختلف آخرون على احتساب الأصوات. لكن الواقع أنه ليس هناك بين القائمين على تأليف الحكومة مَن يقلق من احتجاج شعبي كبير يقلب الطاولة. لا بل إن طمأنينة القوى السياسية تجعل القائمين عليها، يأخذون ما يريدون من الوقت. وهم أصلاً يديرون حكومة تصريف الأعمال. يعني لا شيء تغير ولا شيء سيتغير في خطط الإنفاق والتحصيل. كل ما يمكن أن يكون جديداً، هو انتقال وزارة الخدمات هذه من هذه القوة الى تلك. وعلى جمهور الاثنين التعايش مع الواقع الجديد. قسم خسر نفوذه في هذه الوزارة، لكنه ربحه في وزارة أخرى وبالعكس. ومن يعتقد بأن لدى القوى الحاكمة أو ممثليها في السلطة أي برنامج مختلف لإدارة الأزمة في لبنان، هو موهوم، تماماً كما توهّم بأن إعادة انتخاب هذه القوى سوف يغير في واقع البلاد شيء.
وفي كل الأحوال، سيظل يخرج علينا من يتحدث عن الأغلبية الصامتة. وهؤلاء، وهم في غالبيتهم، من جماعة «المجتمع المدني» ومشتقاته، لا نعرف من أين يأتون بالإحصاءات التي تجعلهم يدّعون بأنهم يمثّلون الأكثرية الصامتة، وهم لم يحصلوا في الانتخابات التي جرت قبل عدة أشهر على أكثر من خمسة بالمئة من أصوات المقترعين. إلا إذا كانوا يعتقدون بأن هناك عملية تزوير حصلت. وهذا شيء غير حقيقي. وكل التلاعب الذي رافق الانتخابات لن يشمل أكثر من 3 بالمئة من الأصوات، التي كانت كافية لنقل هذا المقعد من هذه الجهة الى تلك. وعليه، يمكن الجزم بأنه لا وجود لأكثرية صامتة ولا من يحزنون.
لكن في المقابل، هناك أقلية غاضبة. وهي أقلية وازنة بالمعنى النوعي للتأثير، أي أنها تمثل مجموعات منتشرة في كل قطاعات البلاد. من الموظفين في القطاع العام، وعاملين في القطاع الخاص. وشباب يشعرون بتعب أهاليهم في الحصول على لقمة عيشهم. ويشهدون على عمليات الإذلال التي يتعرض لها الناس من أجل الحصول على وظيفة أو قسط مدرسة أو دواء. لكن هذه الأقلية تفتقر الى التنظيم، وذلك لا يعود الى تنوعها السياسي والطائفي والمناطقي، ولا الى غياب القوة أو التيار القادر على جذبها صوبه. وبالتالي، فإن ما يميز هذه الفئة عن بقية الناس، هو غضبها الذي نشعر به في احتجاجات كامنة تفلت بين الحين والآخر، على شكل مشاكل وصدامات أو على شكل انكفاء وهجرة.
ماذا يمكن لهذه الأقلية أن تفعل؟
الكذب، هو عندما يخرج من يقول لهؤلاء إن عليهم الانتظام الآن وفوراً في إطار سياسي غير موجود. والاحتيال هو في دعوتهم الى التفكير في إطار وأخذ وقتهم لجيل أو جيلين الى أن يجدوا هذا الإطار. أما التزوير، فهو دعوتهم الى حوارات ونقاشات جانبية، من قبل القائمين على البلاد. وبالتالي، فإن كل ذلك هو مجرد تضييع للوقت، وإتعاب لهؤلاء الناس أكثر، واحتواء غضبهم، ومنعهم من القيام بأي رد فعل نوعي على ما يحصل.
وبالتالي، فإن منطق الأمور وسنن التاريخ تقول إنه في حال شعور مجموعة من الناس بأنّ القهر يلازمها عقداً بعد عقد، فليس في مقدورها سوى البحث عن آلية لفرض حضورها، ونيل مقعدها على طاولة القرار. وفي حالة لبنان، لم يعد مجدياً الانتظار أكثر. ولم يعد منطقياً منح الفرص تلو الفرص لمن صار خبيراً في إهدارها عن عمد. وإذا كان بين الغاضبين مَن يعتقد بأن في مقدور أحد تنفيذ انقلاب كبير في البلاد اليوم، فهو واهم أيضاً.
فماذا عن الحل؟
في هذه اللحظات، لن يكون الحل، مع الأسف، إلا عملاً فردياً، يعني أنه عمل تقوم به مجموعات صغيرة، تظهر استعداداً عالياً للتضحية، وتظهر جدية في تحديد الخصوم والأولويات. وهذه الأعمال الفردية قد تقوم على شكل عمل لفرد واحد، أو مجموعة من الأشخاص، أو إطار أوسع. لكن الطابع العام سيظل طابعاً فردياً، وسيكون من غير المنطقي توقع نتائج سريعة لأي عمل يقومون به.
لا وجود لأكثرية صامتة، بل هناك أقلّية يجب عليها البدء بعمل يجبر حكام البلد وسلالتهم على الاستسلام أو الرحيل


وعادة، أو ما هو منطقي، أن يلجأ هؤلاء الى العنف. نعم الى العنف، الذي بات الحل الوحيد لمعاقبة القتلة والسارقين والفاسدين والطائفيين. والعنف، ليس بالضرورة أن يكون منظماً كما يرغب المرء، لأن في ذلك ما يستوجب البحث عن إطار، وهي مهمة غير منطقية الآن. وكل فوضى تنجم عن هذا العنف لها ضررها. لكنه، مهما كان قاسياً ومؤلماً، لن يكون أكثر قساوة وألماً من استمرار الواقع على حاله اليوم.
أما الأهداف، فهي يسيرة الاعداد. ومتى كان المتطوعون لعمل من هذا النوع يملكون الحافزية والإرادة، والاستعداد للتضحية، فهم لن يضيعوا في معرفة الأهداف. ويبقى عليهم اختيار الوسائل الأفضل، والأكثر إيلاماً بحق مَن يقتل الناس يومياً بكل الأساليب. إيلامه إلى حد إجباره على الاستسلام أو الرحيل.
واهم من يعتقد بأن هناك تسوية مقبولة مع مجرمين قادوا الحرب الأهلية بكل فصولها الدموية، ثم سرقوا الدولة بحجة المصالحة الأهلية والاندماج في المؤسسات، ثم استولوا على كل ما له علاقة بالحق العام، بحجة توزيع جديد للثروة. ثم عادوا الى التعبئة والتحريض كأن شيئاً لم يحصل. وهم يستعدون من جديد لفصول جديدة من الحروب الأهلية.
هؤلاء، لا مجال للتسوية معهم، ولا مجال لمناقشتهم ومحاورتهم إلا باللغة التي يفهمون، والتي تهددهم مباشرة، أفراداً كانوا أو سلالات أو قوى مجرمة، وهي لغة الحديد والنار...