«وأكبَرت الكُتلة للمناسبة بالرئيس صبرَه الذي لن ينفَد، وحكمته وتعاليه فوق العديد من حملات التجنّي والتشويه والافتراء التي تستهِدفه». عبارة «مُستقبلية» وردت في بيان أحد اجتماعات كتلة الرئيس سعد الحريري النيابية. في اجتماع ثانٍ مثلاً، يجدّد النواب الثقة برئيس الحكومة المُكلّف وينوّهون «بدوره وسعة صدرِه في مقاربة المواقف والأوضاع السياسية». الأمر يتكرّر في اجتماع ثالث ورابع، فلا تغيب مثل هذه الكلمات عن الموقف الأسبوعي إلا في ما ندَر.يستحِق هذا السلوك المُستجدّ التوقّف عنده. فهذه العبارات تُدرج في بيانات تُتلى بعد اجتماعات يترأسها الحريري نفسه. يعني أن النواب يعقِدون جلسة في حضوره ومن ثمّ يخرجون بتصريح يعمَد صائغوه إلى ضرب «تعظيم سلام» لرئيسِهم، كما لو أنه غائب عنهم! وهذا التفخيم الأسبوعي بالحريري، لا يبدو أنه مجرّد حالة طارِئة وعابرة تتعلّق بأزمة تشكيل الحكومة، وحسب. بل يبدو أنه صارَ ثقافة راسِخة في أدبيات التيار. ما كان يُقال همساً في الصالون الأزرق مسايرةً، أو ينطُق به «المبيضون» في أذُن «الشيخ»، تحوّل إلى فرض مدرسي تقوم به الكتلة. على ذمّة العارفين «طلبه الحريري مرّة، والتزم به النواب مرّة بعد مرّة». فما الذي يدفَع برئيس تيار المستقبل لأن يستخدم منبر كتلته النيابية في تمجيد نفسه على لسان نوابه؟ ولمن سيمنح مهمّة مدحه عندما يتوقف عن ترؤس الكتلة بعد تأليف الحكومة؟
يُحاول الحريري رسمَ طريقٍ جديد للزعامة في محيطه. يستشعر حجم العبء الملقى على عاتقه. بعد عودتِه بالسلامة من المعتقل السعودي كان عليه أن يفعل شيئاً. كان عليه أولاً أن «يقصقِص جوانح» بعض الطامحين من حوله. بدأ ذلك في الانتخابات النيابية عبرَ استبعاد بعض النافذين في المستقبل. استهلّ عقابه بالرئيس فؤاد السنيورة، فأبعده عن كرسي النيابة.
خاض الاستحقاق النيابي ونجحَ بكتلة لا ثقل لها إلا بوجوده. مُخطئ من يظنّ بأن الأمر مزعج بالنسبة إليه، وهو الذي باتَ يرفض بأن يكونَ رئيساً عادياً للكتلة وللتيار. لم يعُد يقمَع «أناه». بات هو الآمر الناهي في التفصيل الصغير كما الكبير. ثمّ أكمل خطته بالوزير نهاد المشنوق لأخذ لقب الـ«معالي» منه بذريعة «فصل النيابة عن الوزارة»، فبات وزير الداخلية «متغيّباً دائِماً» عن اجتماعات الكتلة من دون عذر.
بعدَ الانتخابات تغيّرت صورة الكتلة، شكلاً ومضموناً: «سعد الحريري لم يعُد هو سعد الحريري الذي نعرفه». هذا ما يُحاول نواب قدامى تجددت نيابتهم تصويره. يمضي أحدهم في مقارنة بسيطة بين الكتلة الحالية والكتلة السابقة مُسجلاً عدداً من الفروقات:
من حيث الشكل أصبح عدد أعضاء الكتلة أقل من السابق. فقدَت وزنها السياسي مع خسارة عدد من النواب «أصحاب الخبرة والموقف البارز». من حيث المضمون. يعتبر النائب نفسه بأنها كانت «أكثر مبدئية».
أيام الرئيس السنيورة «كان هناك إصرار دائم على ذكر الموقف من سلاح حزب الله والتمسّك بمنحى ثورة الأرز»، إضافة إلى ما يسميه المستقبليون «الموقف العربي من الصراع مع الهيمنة الإيرانية». فيما حالياً، «باتت الحياة التفصيلية اليومية هي الطاغية. الوضع الوطني العام يُعلي شأن الملفات الاقتصادية والاجتماعية. هذا الأمر جعَل من السلاح والإستراتيجية الدفاعية في آخر سلم المناقشات التي تُفتح في الجلسات».
وفي عهد السنيورة، كان ثمة من يوازي الحريري في هيبته. من نائب صيدا السابق الذي كان يقف في خط الدفاع الأول عن السياسة السعودية، إلى وزير الداخلية ذي النبرة الحادة، الذي وقَف يوماً ما في خط الدفاع الأول عن سعد الحريري ضد خطة الانقلاب عليه سعودياً.
اليوم هناك كتلة تضمّ عدداً من الشباب المسلّمين إلى حدّ الإيمان بكل ما يقوله الحريري. لا يتضادُون مع الرئيس ولا استعداد لديهم لمعارضته. حتى التجربة إذا ما وُجدت لديهم، فتبدو غيرَ كافية للتسلح في مواجهة آرائه. ينعكِس هذا الأمر خضوعاً لكل ما يقوله «فلا أحد يملِك المعطيات التي يملكها الرئيس»، لا في موضوع الحكومة ولا العلاقة مع المكونات السياسية ولا في المملكة العربية السعودية.
عندما كانت الكتلة برئاسة السنيورة، كان الأخير يتولّى مُهمة توزيع الأدوار للنواب، وتبليغهم موقف الكتلة، فلا يغرد أحد خارج السرب. مع كل إشراقة شمس كان التقرير اليومي يصِل إلى البريد الإلكتروني للنواب. يُملي على الجميع ما يجِب الإدلاء به. النائب محمد قباني يتحدّث عن الطاقة والنفط ويقول كذا وكذا. محمد الحجار للكهرباء. عاطف مجدلاني للصحة، وقِس على ذلك.
يُتابع الحريري بدقّة أمور اللجان النيابية والملفات المطروحة على طاولاتها


اليوم يتولى مكتب الرئيس الحريري إرسال البريد «السياسي» عبر هاني حمود أو باسم السبع، بحسب ما يقول نواب جدد. يستشعر هؤلاء بجدية العمل، تحديداً في ما يتعلّق بعمل المؤسسات. كانت الكتلة سابقاً سياسية وباتت اليوم كتلة متابعة لكل الملفات. يتحدث هؤلاء كيف أصبح الحريري يتدخل في شؤون اللجان النيابية. يسأل نوابه عن حضورهم والملفات المطروحة على طاولاتها. في كل جلسة ثلاثاء يبدأ عمله بالاستماع إلى تقاريرهم عن اللجان الذين هم أعضاء فيها. وقد أجبرهم أن يعقِدوا كل فترة اجتماعات مطوّلة مع مستشارين مباشرين له، أو مع موظفين يعملون في وزارات ومؤسسات حكومية وينتمون إلى خط التيار، على أن يشرح هؤلاء المستشارين تفاصيل اقتراحات القوانين المطروحة وكيفية مناقشة نواب المستقبل لها، والملاحظات التي يجِب أن توضع. وفيما حصر متابعة الأمور القانونية بالنائبين سمير الجسر ورولا الطبش جارودي، وزع بقية الملفات على النواب كل بحسب لجانه.
للمرة الأولى، يشعُر النواب بأنهم هم فريق الرئيس الحريري. حين يسألون عن دائرته الجديدة، هكذا يجيبون. هم موجودون دائماً في وادي أبو جميل، ولا حاجة لوسيط بينهم وبين رئيس الكتلة. غيرَ أن الغرابة تبدو في إشارتهم إلى انفصال الكتلة النيابية عن الأمانة العامة للتيار وهيكليتها من مكتب سياسي ومنسقيات، إذ إن «التواصل بين الكتلة والتيار بشكل عام يحصَل عند الضرورة»!