في المرة الثانية، حصل ما لم يكن في الحسبان، إذ توقف العمل فجأة في خطوط هاتف الجريدة يوم الخميس الماضي، أي في اليوم نفسه الذي نشر فيه التقرير حول «الفساد» بين الموظفين. ومع أننا أظهرنا شكوكاً حول جهات معنية بخطوة من هذا النوع، فقد طلبنا من إدارة «أوجيرو» إصلاح العطل وتفسير سببه. وبعد معالجته من قبل فنيي الادارة، قامت بعثة منها بالتحقيق التقني، وأبلغتنا خلاصة أولية غير رسمية، تفيد بأن العطل ناجم عن خلل سببه انقطاع التيار الكهربائي.
الحقيقة، التي اطلعنا عليها ليل يوم الجمعة نفسه، وعلى لسان موظفين في «أوجيرو»، أن فريقاً من الموظفين يحتجّ على ما نشرته «الأخبار»، ووجدوا فيه مدخلاً «لقطع الرزق في حال توقفت الساعات الاضافية»، وأن هذه المجموعة قررت معاقبة «الأخبار» من خلال قطع الخط الهاتفي عنها. لكن المصادفة التي واجهناها مساء الخميس، توقف مفاجئ لخدمة الانترنت عن المؤسسة، وليحصل ذلك بعد أقل من ساعتين على وقف خطوط الهاتف، علماً بأن الشركة المزوّدة قالت إن الأمر ناجم عن خلل في الجريدة وليس منها.
المهم أن الموظف الذي أقرّ لنا، أو ادّعى قيام زملاء له بقطع الهاتف، عاد في اليوم التالي ليقول إنه ورفاقه قرروا عدم استمرار القطع، وإن ما قاموا به رسالة تحذير الى «الأخبار» لتتوقف عن المس بمصالح «الموظفين المعتّرين».
الدولة الفاشلة تشجع الناس على ابتداع وسائل لمواجهة السارقين من كل الرتب
المهم في هذه الرواية هو نقطة بات الصمت عنها مطابقاً للصمت عن الجريمة المتمادية في إدارة هذا البلد، إذ لطالما قيل (ويقال) إن الإصلاح يجب أن يتركز على السارقين الكبار، وعلى الرؤوس الكبيرة، وإنه متى تمّ ذلك، سوف يكون سهلاً محاربة الفاسدين من تحت. لكن، من يسمع رئيس الهيئة العليا للتأديب القاضي مروان عبود يقول عن موظفي الدولة إن «ثلثهم بيقبض وثلثهم ما بيشتغل وثلثهم أوادم»، ثم يدعو الى طرد نصف الموظفين في الدولة اللبنانية بتهم الفساد؛ ومن ينظر الى كيفية معالجة وزارة الداخلية وقوى الامن الداخلي ملف الضابط المحسوب على وليد جنبلاط، والتوقف عن ملاحقته على شبهات بجنح كبيرة؛ ومن يراقب الضغوط الهائلة على القضاء المدني والعسكري في قضية خليل الصحناوي؛ ومن يطّلع على توجهات نافذين في الدولة لجعل قضاء العجلة أداة قمع للإعلام؛ ومن ومن ومن... يعرف أنه لا يمكن ترك قواعد القطاع العام فالتة بحجة أن الإصلاح يجب أن يبدأ من فوق!
في حالتنا نحن، عمدنا الى لفت انتباه مسؤولين في أكثر من مكان في الدولة الى ما حصل معنا. طبعاً لم نحصل على تعليق أو جواب أو تفسير، ونحن لا نتوقع حصول ذلك، وبين المسؤولين من قال لنا مسبقاً إنه لا يمكن مساءلة موظفين يحظون بحمايات سياسية كبيرة. وربما هذا هو السبب الحقيقي خلف قرارنا عدم المبادرة الى تقديم شكوى ضد أي موظف، لاقتناعنا بأن تربية هؤلاء الزعران لن تكون من خلال المسالك الشرعية المعتمدة في هذه الدولة الفاشلة. وبالتأكيد، سيكون لنا وسائلنا في كبح هؤلاء وتدفيعهم ثمن ما قاموا به. لكن ما حصل يزيد من اقتناعنا بأن مواجهة الفاسدين من تحت، لا تقل أهمية ولا ضراوة عن مواجهة الفاسدين من فوق. وهذا ما يجب القيام به من دون خجل أو وجل، ومن دون البقاء رهن أولويات قوى سياسية أظهرت التجارب والعقود عجزها عن الإصلاح إن لم يكن تورّطها في الفساد.