لم تعد معاناة «النموذج» الاقتصادي اللبناني خافية على أحد منذ لجوء مصرف لبنان إلى هندسات مالية لتغذيته وضمان بقائه واستمراريته. لم يتضح حجم نجاح أو فشل الهندسات المتواصلة منذ 2016 إلى اليوم بأشكال مختلفة، لكن الواضح أن بنية النموذج أصبحت أكثر هشاشة وعرضة للخدش من أي وقت مضى. فقد سقط الرهان على «مناعة» النموذج بالتزامن مع انتشار معلومات متضاربة عن ضوابط في سوق القطع وفلتان في سوق اليوروبوندز.
السيطرة على «سعر الليرة»
صباح أمس تناقلت مجموعات من الصرافين معلومات عن رفض المصارف بيعها الدولارات إلا بكميات زهيدة نسبياً. لاحقاً، ظهرت شكوى عارمة من المودعين، مفادها أن المصارف رفضت تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار في يوم الاستحقاق، أو رفضت تحرير ودائعهم وخروجها من المصرف إلا بالليرة. عندها بدأت الأسئلة تصبح مشروعة في السوق: لماذا ليست هناك دولارات؟ هل يرفض مصرف لبنان أن يزوّد السوق بالدولارات؟ هل ترفض المصارف أن تزوّد الزبائن بالدولارات؟ هل ستشهد السوق المالية مرحلة من «السيطرة والتحكّم» كالتي تسود أيام الأزمات والانهيارات؟
سلوك المصارف مع زبائنها والصرافين مريب. مصادر مصرفية برّرت ما حصل بالإشارة إلى أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عقد اجتماعاً في الأيام الماضية مع عدد من أصحاب المصارف ومديريها وحذّرهم من نتائج «حرب الفوائد» التي انطلقت بين المصارف أخيراً. وشدّد على أن تضبط المصارف وتيرة تنافسها في ما بينها لاجتذاب الودائع، وأن تركّز على كيفية جذب الودائع الطازجة من الخارج. ما تبيّن أن هندسات مصرف لبنان المالية وصيغها المتعدّدة حفّزت الزبائن على المطالبة بفوائد أعلى، وأن عدم تلبية الزبائن ترك انطباعاً سلبياً في السوق يشي بعدم وجود دولارات، فيما كان المقصود أمراً آخر. وبحسب أحد المصرفيين، فإن «الزبائن يتفاوضون مع المصارف بعدما سمعوا عن الهندسات المالية والفوائد المرتفعة التي تدفعها المصارف. بعض الزبائن يريد أن يحصل على الفوائد المرتفعة من دون تجميد الوديعة على الفترات التي تتلاءم مع عروض مصرف لبنان. هكذا اندلعت حرب الفوائد بين المصارف والتنافس بين الزبائن على الفوز بالفائدة الأعلى، والأنكى من ذلك أن بعض السياسيين يقومون بتهييج الناس، ما يزيد الوضع سوءاً. الأمر ليس مرتبطاً بوجود الدولارات أو عدمه في السوق، بل في وقف هذا النزف المتواصل بين المصارف».
رياض سلامة التقى مصرفيين، وطلب منهم وقف «حرب الفوائد» والتنافس على الودائع


كلام المصرفيين ليس مقنعاً بالكامل، وعبارة «هدوء في سوق القطع» لم تعد قابلة للتصديق دائماً، لأن المشكلة تكمن في أهداف الهندسات التي ينفذها مصرف لبنان من أجل اجتذاب الدولارات واحتوائها في محفظته لإعادة تكوين الاحتياطات بالعملة الأجنبية في مواجهة نزفها المتواصل في سوق القطع منذ أزمة رئيس الحكومة سعد الحريري إلى اليوم، أي إن التنسيق مع المصارف بهدف تطبيق إجراءات استباقية من نوع منع التحويل إلى الليرة ليس أمراً مستغرباً وقد لا يقتصر ضبط السوق على هذا النوع من الإجراءات التي لا تظهر إلا أيام الأزمات. وأكثر من ذلك، قد يكون الأمر متعلقاً بعمليات مضاربة تقوم بها المصارف كما فعلت قبل نحو سنة ونصف سنة حين أجرت عمليات تحويل بقيمة 3 مليارات دولار واتهمت المودعين بأنهم يقفون وراءها فيما هي في الواقع من قام بهذا الأمر.

هندسات أشكال ألوان
على أي حال، ليست حرب الفوائد المندلعة بين المصارف، سوى الوجه الآخر لهندسات مصرف لبنان. تشكّل هذه الهندسات إحدى الأدوات التي استعملها مصرف لبنان لاجتذاب الدولارات، وهي أداة غير مرغوبة من صندوق النقد الدولي، ولا من مؤسسات التصنيف التي هدّدت بأن تخفض تصنيف لبنان إذا لجأ إلى المزيد من هذه الهندسات. إلا أنه في الواقع، لم يكترث مصرف لبنان بهذه «التهديدات» وبات لديه صيغ متعدّدة من الهندسات على الشكل الآتي:
ــ يشتري مصرف لبنان من المصارف الدولارات التي تجمعها من الزبائن ويتيح لها الاستفادة من توظيفات بالليرة بنفس قيمة الدولارات بمعدل فائدة 20%.
ــ يستقبل مصرف لبنان ودائع من المصارف بالدولار، وفي المقابل، يتيح لها الاستدانة منه بالليرة وتوظيف هذه الأموال لديه، على أن تكون الفائدة الإجمالية التي يحصل عليها المصرف من هذه العملية بكاملها 18%.
ــ يستقبل مصرف لبنان سندات الخزينة بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) التي تحملها المصارف في محفظتها، ويتيح لها الاستدانة بالليرة اللبنانية بضمانة هذه السندات ويعيد توظيف الدين لديه.
المشكلة أن الأمر لم يعد يتعلق بالتنافس بين المصارف على اجتذاب الزبائن، فما يحصل هو عارض بسيط للأزمة الفعلية ونتائجها. الأصل أن «النموذج» الاقتصادي في لبنان والذي يتغذّى على اجتذاب الدولارات «الطازجة» من الخارج، أو ما يعرف بتدفق رؤوس الأموال، لم يعد قادراً على تأمين التدفق الكافي لاستمرار النظام. أما الوسائل والطرق المختلفة، سواء سمّيت مبتكرة أو هندسات أو غيرها، فهي آليات مستحدثة لا تعبّر إلا عن عمق أزمة النموذج وصعوبة تدفق الدولارات من الخارج. وبات من المنطقي التساؤل عن قدرة مصرف لبنان على إبقاء النموذج على قيد الحياة. ما يحصل هو التعبير عن هذا الشكّ، وربما أكثر من ذلك قليلاً.

أزمة اليوروبوندز
الشكوك التي أُثيرت في سوق القطع أمس، سبقتها شكوك في سوق سندات اليوروبوندز بعدما تعرضت لنكسة غير مبرّرة وغير واضحة المعالم. فمنذ بعد ظهر يوم الجمعة الماضي، بدأت تشهد هذه السندات، ولا سيما الشرائح القصيرة الأجل التي تستحق ابتداءً من نهاية 2018 حتى نهاية 2020، انخفاضاً دراماتيكياً في الأسعار وارتفاعاً في العائد. هذان الأمران مترابطان، فكلما تدهورت أحوال السند، انعكس هذا الأمر ارتفاعاً على العائد ليعوّض الانخفاض في السعر. وأصبح الأمر مقلقاً أكثر مع استمرار هذا النمط بعد ظهر الاثنين ليتجاوز العائد على السندات القصيرة الأجل 13%. أثار هذا الأمر الكثير من المخاوف في ظل عدم وجود مبررات عن أحداث سياسية أو أمنية تبرّر هذا السلوك. ما يحصل أن السندات تعكس نظرة سلبية إلى لبنان من الخارج: من يبيع هذه السندات؟ من يشتريها؟ لماذا يجري التخلي عن الشرائح القصيرة الأمد؟ هل يتدخل مصرف لبنان لوقف النزف في السندات؟ هل هندسات مصرف لبنان تسهم في هذا الأمر؟
المعروف أن هناك سندات يوروبوندز بقيمة تفوق 12 مليار دولار محمولة من جهات أجنبية. تحكّم الأجانب بسعر اليوروبوندز ليس أمراً عابراً، بل هو يعكس النظرة المستقبلية للبنان في المدى القصير والمتوسط بالحدّ الأدنى. «عرض ملياري دولار من السندات في السوق يضرب أسعارها» بحسب أحد المطلعين. لكن المشكلة لا تكمن في مسألة العرض والطلب، بل الأمر يتعلق بالمسببات وكيفية مكافحتها. صحيح أن حاملي سندات الدول الناشئة مثل لبنان يستغنون عنها تدريجاً، إلا أن المشكلة تكمن في الذين استدانوا على هذه السندات، وبات عليهم أن يسددوا الخسائر. قبل أشهر اضطرت المصارف إلى أن تدفع 600 مليون دولار خسائر على السندات، ما أدّى عملياً إلى خروج هذا المبلغ من لبنان، فيما كان مصرف لبنان يكافح من أجل اجتذاب الدولارات. هذا الأمر دفع مصرف لبنان إلى «ابتداع» هندسة تستقطب السندات من أجل أن يتاح له تضخيم احتياطاته بالعملة الأجنبية التي أدخل ضمن عناصر احتسابها سندات اليوروبوندز، فضلاً عن التلاعب بميزان المدفوعات! المشكلة أن الهندسات لا تفسّر تدهور هذه السندات، ولا يمكن القول «حتى الآن» سوى أن التدهور يمثّل «رؤية السوق» للوضع الاقتصادي والمالي في لبنان.