في رواية إسرائيل لاستبعاد الحرب المقبلة في مواجهة حزب الله (يصر العدو أن الطرفين لا يريدان اندلاع الحرب)، توجد عبارة «ولكن» كبيرة: إن رد حزب الله على «إجراء» عسكري إسرائيلي في لبنان، فقد يستدعي الرد رداً ومن ثم سلسلة ردود مقابلة، وصولاً إلى التدحرج نحو حرب واسعة.هذه الـ«لكن» مغلوطة، وهي تنقل مسؤولية التسبب بالحرب إلى غير المتسبب بها. وهذه «الرواية» هي جزء لا يتجزأ من إستراتيجية إسرائيل في مواجهة حزب الله وردعه في مرحلة ما قبل الحرب، عبر الربط بين إمكان نشوب الحرب وبين أفعال الحزب، حتى لو كانت هذه الأفعال رداً على اعتداءات كيان الاحتلال.
(هيثم الموسوي)

إلا أن الحرب الإسرائيلية المقبلة، إن نشبت، فستكون بمبادرة وقرار، كانا إسرائيليَّين وما زالا. الحرب لا تنشب، لأن إسرائيل لا تريد نشوبها، بصرف النظر عن أسباب ذلك. وستبقى الحال على ما هي عليه، أقله في المستقبل القريب. أي «فذلكة» مغايرة، لا تعني إلا الابتعاد عن الواقع والحقائق.
على جانبي المتراس، القوة الأكثر اقتداراً هي إسرائيل، مقابل قوة حزب الله التي يقال عنها الكثير، من دون أن تصل قياساً، وبطبيعة الحال، إلى قوة العدو واقتداره. وهذه حقيقة تفرض نفسها على الجانبين، وعلى استعدادهما وجاهزيتهما، وتحديداً الجهة القادرة فعلاً على المبادرة إلى حرب، فيما تدفع الأخرى إلى التموضع الدفاعي.
مع ذلك، يخوض الطرفان حرباً غير صاخبة، وهي الحرب القائمة حالياً بلا قتال عسكري. الهدف الإسرائيلي منها هو منع تعاظم القوة العسكرية لحزب الله، كمّاً ونوعاً، إضافة إلى تأجيل نشوب الحرب العسكرية أو إلغائها بسبب تعذر تحقيق أهدافها. أما الهدف الرئيسي لحزب الله، فهو تعزيز القدرة الدفاعية عبر التعاظم العسكري النوعي.
في هذه الحرب، غير الصاخبة، يبرز الصراع على الردع بين الجانبين، كلٌّ لأهدافه. حزب الله لتعزيز موقفه الدفاعي ومنع اعتداءات إسرائيل، فيما الردع الإسرائيلي يهدف إلى منع التعاظم العسكري المقابل، وتبعاً له منع تحَوّل التموضع الدفاعي لحزب الله، إلى تموضع هجومي ينتج من الإفراط في تعاظم القدرات الدفاعية.
هل حقق الطرفان أهدافهما؟
الواقع يشير إلى فشل إسرائيل في منع تعاظم عدوها عسكرياً، فيما جاء واقع أن الحرب لم تنشب، ليتناسب مع هدف إسرائيل الثاني في منع الحرب نفسها. في المقابل، لا جدال في نجاح حزب الله في تحقيق هدفيه الرئيسيين المتلاصقين: تنمية القدرة العسكرية نوعياً، وكنتيجة مرتبطة، منع نشوب الحرب كما الاعتداءات الإسرائيلية الموضعية على لبنان.
هل هذا يعني أن الحرب باتت ممتنعة؟ في ذلك يشار إلى الآتي:
لا تخاض الحروب لذاتها. للحرب أهداف، إن كان متعذراً تحقيقها أو كانت تكلفتها أعلى من جدواها، فلا دافعَ لها ولا تحفيز.
إذا شنت إسرائيل الحرب فهي تهدف إلى تحقيق نتيجة اجتثاث حزب الله وتهديده؛ أو تقليص التهديد ومنع تعاظمه؛ أو إيجاد ديناميكيات ميدانية وسياسية بمعية طرف ثالث من شأنها تقليص تهديد حزب الله أو إنهائه. انتفاء القدرة على تحقيق أي من هذه الأهداف، أو أن أثمانها مرتفعة وتفوق القدرة على تحملها، يؤدي بطبيعة الحال إلى ما تقر به تل أبيب: غير معنية بنشوب الحرب، وكذلك بما من شأنه التسبب بها.
على هذه الخلفية بُنيت إرادة اللاحرب الإسرائيلية. وهذا هو الموقف الإسرائيلي شبه الثابت منذ عام ٢٠٠٦. واقع لم يعد مجرد تقدير، بل موقف معلن ومفعَّل، وتمتنع بموجبه تل أبيب عن الأفعال العدائية في لبنان، طوال السنوات الماضية، على رغم كل ما لديها من حوافز ودوافع.
وإرادة اللاحرب الإسرائيلية، ليست إرادة امتناع عن مباشرة الحرب وحسب، بل تمتد إلى ما يمكن أن يتسبب بها من أفعال. وتتعاظم هذه الإرادة مع بدء الحرب نفسها، ما يدفع إسرائيل باتجاه منع امتدادها وتواصلها.
على ذلك، فإنّ رَدَّ حزب الله على اعتداء إسرائيلي لا يعني انطلاق الحرب تلقائياً، بل عدم الرد يؤدي إلى الحرب التي لا يراد اندلاعها، وإنْ تدحرُجاً. الواضح أن حزب الله يدرك جيداً التبعات السيئة للامتناع عن الرد، لأن هذا الامتناع يدفع إسرائيل إلى المزيد من الاعتداءات وإلى رفع مستواها. الرد، بذاته، يؤدي إلى امتناع الحرب لا التسبب بها، ما لم تكن إسرائيل مقررة مسبقاً مباشرةَ الحرب وإعادة الرهان على الخيارات العسكرية.
حزب الله يدرك جيداً التبعات السيئة للامتناع عن الرد على أي إعتداء إسرائيلي


إلى ذلك، الرد الإسرائيلي على الرد، ضمن فرضية التدحرج إلى ردود، إن لم يواجه أيضاً برد بمستوى أعلى منه، فلن يتبعه انكفاء إسرائيلي، الذي بدوره سيتسبب برد من حزب الله مرتفع الوتيرة تلقائياً، ومن ثم الدخول في تعقيدات وضع ميداني لا يمكن الخروج منه بلا انكسار في صورة الطرف المنكفئ.
التعاظم في قدرات حزب الله العسكرية، وكذلك في إرادة تفعيلها رداً على اعتداءات إسرائيلية في الساحة اللبنانية، ضرورة وليست خياراً لحزب الله، ومن شأنه أن يمنع الحرب لا أن يتسبب بها. والحرب، بأثمانها ولا جدواها، هي التي تفرض على إسرائيل الامتناع عن مباشرتها. هي معادلة استعصت على الانكسار طوال السنوات الماضية، ويصعب تصور انكسارها في الآتي، وإن كان من المحظور نفيها بالمطلق.