عشرات الاستدعاءات رُفعت، ولا تزال تُرفع، أمام قضاء العجلة، طالبة منع النشر أو سحب ما هو منشور. كانت بداية هذه «الموضة» مع القرار الذي صدر في عام ٢٠١٠، إثر دعوى تقدم بها صاحب مصرف «سوسييته جنرال» أنطون صحناوي أمام قضاء العجلة، يطلب فيها وقف عرض تلفزيون «أو تي في» لإحدى الفقرات في برنامج «أوفريرا» الساخر، التي تتناول حادثة إطلاق نار في أحد الأندية الليلية واتُّهم فيها مرافقو صحناوي.قرار المنع الذي أصدرته القاضية زلفا الحسن، كان «فاتحة» عصر جديد من الرقابة على الإعلام، لا بل فتح باباً واسعاً أمام الاستنساب في قضايا النشر. لكن من كان يأمل أن يكون القرار هو الاستثناء الذي يؤكد قاعدة عدم استغلال قضاء العجلة للحدّ من الحريات الإعلامية، سرعان ما خاب ظنه، بعد قرار ثانٍ أصدرته القاضية الحسن أيضاً، وقضى بقبول الاستدعاءات المقدمة من أبناء منصور الرحباني لمنع وسائل إعلامية من نشر أي معلومات تتصل بالنزاع القائم بينهم وبين السيدة فيروز. أضف إلى أن هذه المرة كانت المرة الأولى التي يطاول فيها المنع أفعالاً مستقبلية (مواد وتحقيقات لم تحرَّر بعد)، وذلك بخلاف قضية «أوفريرا» حيث طاول المنع بث فيلم سبق تصويره.
قضيتان كادتا تكرِّسان مبدأ الرقابة المسبقة على الإعلام، لولا قرارات عادت لتضع الأمور في نصابها المنطقي، وخاصة القرار المرجعي الذي أصدره القاضي جاد المعلوف في 29-10-2011، وقضى بردّ طلب مُغنية بمنع برنامج تلفزيوني من التطرق إلى أية أخبار خاصة بها من شأنها التشهير بها وبسمعتها، وخاصة ما يتعلق بالمسائل العائلية والعاطفية والمالية.
لم يكتفِ حينها المعلوف بردّ الاستدعاء على أساس أن المستدعية لم «تقدم أي دليل على نية هذه القناة بالقيام بذلك وعلى خطورة هذا التعرض»، بل ذهب إلى تأكيد وجوب «الموازنة بين هذه النتيجة السلبية (أثر التدبير المطلوب على حرية التعبير) والضرر الذي قد ينشأ في حال عدم اتخاذ التدبير المطلوب». وهذه الإحالة إنما تمنح القاضي هامشاً واسعاً لتعزيز قدرته على الاجتهاد، ما دامت الموازنة تفترض تقويم الأبعاد الاجتماعية لأيّ توجه قد يعتمده القاضي. وبنتيجة هذه الموازنة، يجب حصر تدخله في حالات استثنائية جداً متى ثبت له وجود تعرض وشيك مؤكد الحصول ومن شأنه التسبب بأضرار جسيمة تتجاوز النتائج السلبية للحدّ من الحرية، وتكون غير قابلة للتعويض. بالمقابل، لا مجال للتدخل متى لم تثبت جدية التعرض أو احتمال وقوعه أو خطورته وعدم إمكانية التعويض عن الأضرار التي من شأنه التسبب بها، لكي لا يمسي تدخله «رقابة مسبقة تشكّل قيداً غير مقبول على حرية التعبير والإعلام ومحاسبة على النيات».
وتكمن أهمية هذا الحكم، بحسب «المفكرة القانونية»، في إضاءته على ضرورة تضييق صلاحية التدخل، من خلال قوله إن الضرر في حال حصوله يبقى قابلاً للتعويض بموجب «قانون المطبوعات وقانون العقوبات» اللذين يوفران الحماية اللازمة عبر العقوبات الرادعة الواجب تطبيقها في حال التعرض للغير بشكل يتجاوز حرية التعبير».
مساعٍ حقوقية لتضييق صلاحية قضاء العجلة في قضايا النشر


وفيما أراد معلوف من حكمه أن لا يتحول قضاء العجلة إلى مطيّة يستغلها المتضررون من الرقابة المجتمعية التي يمارسها الإعلام، فإنه من خلال مبدأ التوازن، كرس أولوية تضييق صلاحية قضاء العجلة ما دام الضرر قابلاً للتعويض.
وليس بعيداً عن قرار القاضية كارلا شوّاح ردّ طلب «أوجيرو» منع «الأخبار» من التطرق لأخبارها، ردت شوّاح طلباً آخر تقدم به رجل الأعمال اللبناني أيمن جمعة، في حزيران الماضي، يطلب فيه وقف تناوله من قبل موقع «درج» ومؤسسة «أريج» وتلفزيون الجديد، وبإلزامهم إزالة الأخبار التي نشروها عنه فوراً تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها مئة ألف دولار على المخالف أو عن كل يوم تأخير. علماً أن ما نُشر كان جزءاً من الدفعة الثانية من وثائق بنما التي يشرف على نشرها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين، وتتضمن تحقيقات عن شخصيات عالمية سُرِّبَت وثائق عن نشاطاتها المالية في الملاذات الضريبية.
ليست كل الأحكام لمصلحة الإعلام وحرية التعبير، فأحكام عديدة قضت بمنع النشر، أبرزها إصدار محكمة الأمور المستعجلة في المتن برئاسة القاضي أنطوان طعمة قراراً، في ٨\٦\٢٠١٧، منعت بموجبه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والإلكترونية من تناول اسم الدكتور نادر صعب ومستشفاه في قضية وفاة فرح قصاب في جوانبها التحقيقية، وذلك تحت طائلة غرامة إكراهية بقيمة خمسين مليون ليرة لبنانية عن كل مخالفة لهذا القرار وإبلاغ من يلزم. حينها رأى القاضي أنه «حفاظاً على حرمة الموت ومنعاً من التأثير على مسار التحقيق، فإنه يتوجب عدم تناول تلك القضية في جوانبها التحقيقية بحيث إن الحد من حرية التعبير يكون له ما يبرره في تلك الحالة».
وقبل ذلك، كانت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن، قد أصدرت قراراً في 15/11/2016، منعت بموجبه محطة «ام تي في» من «الإساءة والتعرض» لوزير الاتصالات بطرس حرب بناءً على مراجعة قدمها الوزير أمام القضاء في هذا الخصوص، «تحت طائلة غرامة إكراهية قيمتها 50 مليون ليرة لبنانية عن كل مخالفة لهذا القرار، وإلزامها وقف التعرّض المذكور فور إبلاغها القرار الراهن وتحت طائلة الغرامة الإكراهية نفسها».
ما سبق يشير بوضوح إلى أن قضاء العجلة صار، بحكم الأمر الواقع، ملجأً لكل من تسول له نفسه التحرر من عبء المساءلة الإعلامية ـــــ المجتمعية. وشاء أو أبى ستردّ إليه عشرات الدعاوى المرتبطة بمسائل تمسّ بحرية الإعلام والحق بتنوير الرأي العام إلى قضايا تهمه. لكن النقاش الأساسي يبقى مرتبطاً بمن يحق له اللجوء إلى قضاء العجلة؟ هل للشخصيات العامة الحق في منع تناولها في الإعلام، في قضايا تتعلق بكيفية إدارة المرفق العام لا بحياتها الخاصة، على سبيل المثال؟ ألا تدرك الشخصيات أنها بحكم موقعها هي الطرف الأقوى في أي معادلة تطاول عملها، لأنها الأقدر على الوصول إلى الناس لإيصال وجهة نظرها وإقناعهم بصوابية ما تقوم به؟ أليست الرقابة المجتمعية التي يمارسها الإعلام هي أبسط الممكن لمواجهة من يخلطون بين الملكين العام والخاص؟
وإذا كانت القوانين اللبنانية تسمح برفع دعاوى على من يذمّ بالشخصية العامة، بعكس دول عديدة أبرزها أميركا، فلماذا المبالغة واللجوء إلى القضاء المستعجل؟ نظرة واحدة إلى ما يكتب ويقال في الصحافة الأميركية عن الرئيس دونالد ترامب، من دون أن يكون له حق الادعاء أو حتى الشكوى، كفيل بتقدير النعمة اللبنانية المستمدة من الأنظمة الفرنكوفونية، التي تسمح بالادعاء على أي وسيلة إعلامية أمام محكمة المطبوعات. لكن هذا لا يعني بأي شكل من الأشكال السعي إلى تحويل قضاء العجلة إلى أداة للرقابة المسبقة وقمع الحريات.