سعت «أوجيرو» ورئيسها عماد كريدية إلى منع «الأخبار» من نشر أي مقال يتعرض لهما وإلى إلزامها بسحب ما كتب عنهما سابقاً، فكان القضاء في المرصاد. قراران لقضاء العجلة تطابقا لناحية الحرص على حرية الإعلام، وعدم تحول القضاء إلى أداة للرقابة المسبقة. أكثر من ذلك، تأكيد أن هامش الحرية في قضية «أوجيرو» يجب أن يكون أوسع، لأنها قضية «ترتبط بالشأن العام وتدور الشبهات حولها...».
رئيس «أوجيرو» يطلب منع «الأخبار» من التعرض له... وقضاء العجلة يلقّنه درساً في احترام حرية التعبير (أنجل بوليغان ــ المكسيك)

لا يكاد يمرّ أسبوع، إلا وتصل إلى قضاء العجلة استدعاءات تطالب، ببساطة، بمنع النشر أو سحب ما هو منشور بحجة تضرر سمعة المستدعي مما يُكتب. ولأن هذا المنحى تحول إلى «موضة»، برز توجه مضاد لدى بعض قضاة العجلة، الذين يشددون على أن حماية حرية التعبير، المكفولة دستوراً، أسمى من سمعة المسؤولين. هذا على الأقل ما أثبته قضاء العجلة في أكثر من مناسبة، وآخرها في الدعوى المقدمة من كل من هيئة «أوجيرو» ورئيسها ـــــ مديرها العام عماد كريدية لدى قاضي الأمور المستعجلة في بيروت، في 16/7/2018. مطلب الاستدعاء كان بسيطاً: حذف كل ما كتب عن «أوجيرو» ورئيسها سابقاً ومنع الجريدة من الكتابة عنهما مستقبلاً، تحت طائلة غرامة إكراهية لا تقلّ عن 100 مليون ليرة.

محاصرة الإعلام
هذه الدعوى ليست استثناءً. لكنها، أسوة بمثيلاتها، تطرح أكثر من علامة استفهام تتعلق بالسعي إلى تحويل القضاء المستعجل إلى جهاز لممارسة الرقابة المسبقة، ليس فقط لتحديد ما يمكن أو ما لا يمكن قوله، بل أبعد من ذلك، لاستشراف نيات هذه الوسيلة أو تلك. السؤال الأخطر كان: بأي حق يستخدم أصحاب النفوذ، ومنهم عاملون بالشأن العام، هذه الوسيلة لمنع أي تعرض لنفوذهم، أو تشكيك بمشروعيته؟ وألا يُخشى أن يؤدي ذلك إلى الحدّ من حرية التعبير وإلى المسّ مباشرةً بمبدأ «حرية النشر من دون أي رقابة مسبقة»، مع ما يستتبع ذلك من تضييق لمساحات النقاش العام؟
الاستدعاء المرفوع من «أوجيرو» ضد «الأخبار»، كما غيره من الاستدعاءات التي تلجأ إلى قضاء العجلة، مرتبط تماماً بهذا النقاش. هل الحل يكون بمحاصرة الإعلاميين ومنعهم من فضح التجاوزات والمخالفات الموثّقة؟ أم أن الأَولى يكون بالسعي للتحقق مما ينشر والبدء بمحاسبة كل من يهدر المال العام؟

أخبار كاذبة
بعد عدد من المقالات التي كتبتها «الأخبار» عن «أوجيرو» وما يجري داخلها وداخل وزارة الاتصالات من أعمال مخالفة للقانون، فضّلت إدارة الهيئة تخطي مبدأ حق الرد المكفول قانوناً، واختصار الطريق. فتقدم وكيلها ووكيل كريدية المحامي هيثم عالية بطلب إصدار أمر على عريضة يمنع «الأخبار» من التعرض للمستدعيين مستقبلاً وحذف كل ما كتب سابقاً. واعتبر المستدعيان أن الجريدة «دأبت على الإساءة إليهما من خلال مقالات دورية تنشر في الجريدة وعلى موقعها الإلكتروني وعلى بعض مواقع التواصل، في إطار حملة مبرمجة ومقصودة لتشويه سمعتهما ونشر أخبار كاذبة وغير صحيحة، وقد وصل بها الأمر إلى حد اتهامهما بتسليم داتا الاتصالات للعدو الاسرائيلي (اتهام غير صحيح ولا يهدف إلا إلى التهويل وإبعاد الأنظار عن حجم الهدر والمخالفات المرتكبة، خاصة أن «الأخبار» شككت ولا تزال بالاتفاق الخطير الذي أبرم مع شركة أكواتيف الأميركية، كما شككت بمصير المعلومات الخطيرة التي حصلت عليها الشركة بإذن من وزير الاتصالات ومن كريدية)، ما من شأنه التأثير في سمعة قطاع الاتصالات وفي لبنان بشكل عام، وفي سمعتها بشكل خاص، كما نشرت مقالات أخرى تتهمها فيها بالفساد وبإجراء توظيفات سياسية وبالهدر والفلتان والاستنسابية وبالتفرد في إنفاق المال العام، وأنها لا تزال مستمرة لغاية تاريخه بحملتها تلك». كذلك استرسل المستدعيان في تحديد دور الإعلام، فافترضا أنه «يجب أن لا يتعدى حدود نقل الخبر إلى الجمهور بتجرد».

فضح الفساد محفوظ قانوناً
وفيما عمد وكيل «الأخبار» المحامي نزار صاغية إلى طلب ردّ الاستدعاء «لعدم قانونيته ولتعارضه مع المبادئ الدستورية التي ترعى حرية التعبير واتفاقية مكافحة الفساد»، أوضح أن «القضية هي قضية تعني الشأن العام بدرجة كبيرة، وترتبط بحق الإعلام بالإضاءة على سوء الإدارة والتصرف لدى القيّمين على الخدمة العامة، ولا سيما إذا أدى إلى تبديد المال العام أو انتهاك خصوصيات المواطنين». وأكد أنّ «من واجب الإعلام الإضاءة على الفساد وفضحه أمام الرأي العام، بما يتماشى مع مبدأ الديموقراطية ومع التزام لبنان اتفاقية مكافحة الفساد»، موضحاً أن «المقالات التي نشرتها تخلو من أي قدح وذم، وبالتالي إن المطالبة بمنع نشر المقالات مستقبلاً يدخل ضمن تقييد حرية التعبير بشكل يتعارض مع مبدأي الضرورة والتناسب». وأشار صاغية إلى أن «المادة 387 من قانون العقوبات تجيز لفاضح الفساد أو سوء الإدارة في ما يتصل بممارسة الوظيفة العامة، أن يبرر فعله في حال إثبات صحته أو إعطاء أدلة كافية تبرر اعتقاده هذا، وأن نشر التقارير منسجم مع المادة 13 من اتفاقية مناهضة الفساد وأن فضح الفساد أعلى وأهم قيمة من صون كرامات بعض الأشخاص».

«شبهات حول أوجيرو»
على أثر الاستدعاء وطلب رده المقدم من «الأخبار»، خرجت القاضية كارلا شوّاح بقرار صدر في 31/7/20178، أعلنت فيه «رد الاستدعاء وإبقاء الرسوم والنفقات على عاتق من عجّله (أوجيرو وكريدية)». في تعليل القرار، قدمت شوّاح مطالعة قانونية أشارت فيها إلى أن «المنشورات المشكو منها قد نشرت في تاريخ سابق لتقديم الاستدعاء، وبالتالي لا تكون العجلة الماسة التي تستوجب قضاء العجلة. أما في إلزام المستدعى بوجهها الامتناع عن نشر أي مقال أو كتابات تتعلق بالمستدعيين وتتضمن إساءة أو تعرّضاً لهما، فلا تستقيم قانوناً لعدم جواز اتخاذ تدابير مانعة للمستقبل وبشكل مطلق نظراً لما يشمله هذا الأمر من إجراء رقابة مسبقة على الإعلام ومن تقييد لحرية التعبير، وفي مطلق الأحوال لعدم إمكانية تقدير مسبقاً ما قد يُعتبر إساءة إلى المستدعيين وتعرضاً لهما، فضلاً عن أنه في جميع الأحوال لم ينهض الدليل الأكيد والحاسم على تعرّض المستدعيين لخطر داهم ومحدق لا يمكن تلافيه إلا بإقرار المنع المسبق من نشر أي مقال في المستقبل يتعلق بهما».
لم تكتف شوّاح بعرض ما يحول دون قبول دعوى «أوجيرو»، بل ذهبت لنقاش الموضوع من حيث المبدأ، فأشارت إلى أنه «على سبيل الاستطراد، فإن التدبير المطلوب اتخاذه يتعارض مع مبدأ القول وحرية التعبير عن الرأي المكرّسة في الدستور اللبناني، وحرية الإعلام، ولا سيما في الإضاءة على المواضيع التي تهمّ الشأن العام وحرية نشر المعلومات المتعلقة بالفساد وإيصالها إلى الجمهور وهو حق محمي قانوناً بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي أوجبت في مادتها الثالثة عشرة على كل دولة طرف اتخاذ تدابير مناسبة ضمن حدود إمكاناتها، ووفقاً للمبادئ الأساسية لقانونها الداخلي، لتشجيع أفراد أو جماعات لا ينتمون إلى القطاع العام، مثل المجتمع الأهلي والمنظمات غير الحكومية على المشاركة في منع الفساد ومحاربته، ولإذكاء وعي الناس، في ما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه. كما أوجبت تدعيم هذه المشاركة بتدابير منها حماية حرية التماس المعلومات المتعلقة بالفساد وتلقيها ونشرها وتعميمها».
قضاء العجلة في بيروت: الإعلام يمارس دوراً رقابياً باسم المجتمع


أما بشأن ما نشر عن «أوجيرو» تحديداً، فأشارت إلى أنه «يتعلق بقضية ترتبط بالشأن العام وليست خافية على أحد، ويجري تداولها منذ فترة وتدور الشبهات حولها، وتهمّ الشعب اللبناني وكل مواطن، وتؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على حقوقه، بحيث له الحق بمتابعتها بتفاصيلها كافة وبنقل المعلومات المتعلقة بها إليه، لكونها تتعلق بحقوقه ومستلزماته اليومية وبأمواله ومصيرها وبحقه في المساءلة بكشف الملابسات والحقيقة وبالمطالبة بالمحاسبة، فيكون هامش الحرية في التعبير عن الرأي في مثل هذه الحالة أوسع وتغلب مصلحة وحق المواطن في تلقي المعلومات والحماية التي يتمتع بها لهذه الناحية والتي تتمتع بها حرية التعبير عن الرأي على حق المستدعيين بمنع نشر معلومات تتعلق بهما وإنه في جميع الأحوال وعلى فرض أن ما تم نشره من قبل المستدعى بوجهها من شأنه أن يشكل إساءة إلى المستدعيين وتعرضاً لهما يبقى للأخيرين حق اللجوء إلى المراجع المختصة لاتخاذ التدابير اللازمة موضوع هذا الاستدعاء وللتعويض عن أي ضرر لاحق بهما أو قد يلحق بهما، في حال ثبوته».

«المساءلة حق للإعلام»
هذه المطالعة التي أبدى فيها القضاء حرصه على حرية الإعلام وحقه في فضح الفساد، لم تقنع المستدعيين، فما كان منهما إلا اللجوء إلى استئناف قرار محكمة البداية. لكن مرة جديدة أتى القرار بما لا يشتهي المتضرر من فضح الفساد، إذ أصدرت غرفة الاستئناف برئاسة القاضية جانيت حنا، في 9/8/2018، قراراً يخلص كذلك إلى «قبول الاستئناف شكلاً، ورده في الأساس وتصديق القرار المستأنف من حيث النتيجة، تضمين الجهة المستأنفة الرسوم والمصاريف ومصادرة التأمين الاستئنافي إيراداً للخزينة العامة».
وقد عكس قرار محكمة الاستئناف، كما قرار محكمة البداية، حرص القضاء على حرية التعبير، كحرية دستورية لا يمكن التعرض لها من دون تمكين الطرف المطلوب تقييده الدفاع عن نفسه بشكل مناسب، وبخاصة في ما يتصل بالشأن العام وحسن إدارة المرافق العامة. فجاء في حيثياته أن «التدابير التي تطلبها الجهة المستأنفة تستند إلى مقالات تتعلق بسير العمل في هيئة أوجيرو وبكيفية إدارته لقطاع الاتصالات في لبنان، فيكون الطلب الرامي إلى منع جريدة الأخبار، وهي وسيلة إعلامية لبنانية، من تضمين المقالات التي تنشرها ما قد تعتبره الجهة المستأنفة مسيئاً لهيئة أوجيرو أو لمديرها العام، يثير بذاته نزاعاً لا يمكن هذه المحكمة أن تبتّ به دون دعوة الخصم المعني به وسماعه بالصورة الوجاهية». كما تطرقت محكمة الاستئناف بدورها إلى الأمر من ناحية مبدئية، فأكدت أن «مقاربة المسائل المتعلقة بالشأن العام والمرافق العامة وإلقاء الضوء عليها يدخل في صلب العمل الإعلامي الذي ينظمه المشرع اللبناني بعدد من القوانين الوضعية التي تضمن للجهة المسـتأنفة حق الرد كما تضمن لها إمكانية ملاحقة من يتعرض لها دون سبب مشروع أمام المرجع القضائي المختص». وبذلك تكون الرسالة قد وصلت إلى هيئة «أوجيرو» ورئيسها ــــــ مديرها العام، ومفادها أن أعمالهما ستبقى موضع نقاش ومساءلة مجمتعية وإعلامية، طالما أن عملهما يرتبط مباشرة بالمصلحة العامة والمال العام. وهذه الرسالة ما كانت لتصل لولا وجود قضاة فهموا وظيفتهم بطريقة تنسجم مع مبادئ الديمقراطية، وفي مقدمتها مساءلة المجتمع للقيّمين على الخدمة العامة.