غداً، 14 آب 2018، العيد الـ12 لصدور «الأخبار». الجريدة التي نعتقد أنها قامت وتقوم بقسم أساسي من دورها المهني والسياسي والثقافي، في سياق الموقع الذي اختارته منذ اليوم الأول لانطلاقتها. لا حاجة لنا اليوم لنتغنى بما قمنا به. وموقعنا المهني متقدم كثيراً، جرّاء جهود كبيرة قام بها جميع الزملاء/الزميلات الذين تعاقبوا على العمل فيها. لكننا، لسنا من النوع الذي لا يرى الصورة بأكملها، حيث المشكلات التي تواجه الاعلام في لبنان والعالم العربي. وحيث يتخلف أهل المهنة، كما أهل الدولة، عن مهمة مناقشة هذه المشكلات، وتحديد وتوزيع المسؤوليات حولها.
تبريرات أصحاب هذه المهنة والعاملين فيها يمكن حصرها اليوم ببرنامج «النق» الذي تعوده القائمون على وسائل الاعلام. حيث يصرّون دوماً على أن المشكلة ناجمة تارة عن خواء سياسي، وتارة عن تراجع العمل السياسي العام، وتارة عن ضعف الواردات الاعلانية، وتارة عن القمع والضغوط. لكن، ليس منا من يخرج لقول بعض الحقائق عن واقع الاعلام في لبنان، وعن واقع إدارة هذا القطاع من أهله قبل الآخرين من دولة وجمهور ومعلنين. ولعل مساهمتنا في هذا النقاش نفتتحها اليوم بثلاث ملاحظات نعتقد أنها أساسية بانتظار آراء الآخرين ومساهماتهم:
أولاً: لم يحصل في لبنان أن توافق أهل الاعلام على حد واضح ومكتوب ومقبول من القواسم المشتركة التي يجري تحويلها الى لائحة التزامات وواجبات. لا بل ظل أهل المهنة يخلطون في الوظيفة بين أصحاب المؤسسات الاعلامية والعاملين فيها، من صحافيين وتقنيين وإداريين. ومع الوقت صار التماهي حاداً، كما هي حال نقابتي الصحافة والمحررين. حيث ترفض نقابة الصحافة الإقرار بأنها عبارة عن تجمع لأصحاب شركات تجارية تتعاطى النشر الإعلامي والاعلاني. وبالتالي، فإن جوهر وظيفتها غير متصل ابداً بنوعية المحتوى المفترض أن يخضع لمعايير مختلفة، تكون اساساً من مسؤولية الجسم المنتج، أي الموظفين برتبة صحافي أو تقني أو إداري. وهو الخلط الذي ترعاه القوانين اللبنانية، التي لا تميز بين اصحاب شركات اعلامية وأصحاب المهنة، ممن يحتاجون الى قوانين تحميهم من كل شيء، وأولاً، من بطش اصحاب الوسائل التي يعملون فيها. حتى تحولت نقابة المحررين، مع الوقت، الى شاهد عاجز، لا يقدر على جذب انتباه المحررين انفسهم، فكيف سيجذب اهتمام اصحاب وسائل الاعلام أو السلطات المعنية. وهذا أمر، لا يكون علاجه بدمج النقابتين بواحدة تعنى بكامل شؤون المهنة، بل بفصل حقيقي، وبدفع اصحاب الوسائل الاعلامية إلى الانتساب الى غرفة التجارة والصناعة، وان يظهروا تمايزهم كما يفعل اهل القطاعات المتنوعة في التجارة والصناعة. مقابل ذلك، لا بد من فرض قواعد تجعل العاملين في هذا القطاع ينتجون نقابة أو إطاراً، يركز عمله على هواجس وحقوق وواجبات هذه الفئة المنتجة، والتي لولاها لا يوجد اعلام ولا وسائل اعلام.
أصحاب وسائل إعلامية حصلوا على عشرات ملايين الدولارات كقروض مدعومة وأخفوها ودائع في المصارف مقابل الصمت عن فساد الحكام والمفسدين


ثانياً: لم يحصل يوماً أن بادر أصحاب الوسائل الاعلامية كافة الى البحث مع السلطات القائمة في البلاد عن سبل تعزيز وحماية المهنة، بل ظلوا على الدوام يمارسون هواية الابتزاز والخضوع، وبما يحقق لهم المنافع كأصحاب وسائل إعلامية وشركات. حتى إذا حصلوا على دعم معين، لم ينعكس إيجاباً على واقع العاملين في هذه المؤسسات. وهو خلل كبير ناجم عن كون غالبية ساحقة من أصحاب وسائل الاعلام في لبنان تميل الى التواطؤ مع السلطات، ومع القطاع الخاص الغني، من اجل عقد تسويات، لا تأتي فقط على هوامش الحرية الخاصة بالاعلاميين، بل تأتي على هوامش المؤسسات الاعلامية نفسها. وهو تواطؤ أساسه السعي الى تحصيل مكاسب ولو بطرق غير مشروعة أو ملتوية. وهذا امر قائم، ويمكن للجمهور مطالبة السلطات المالية الرسمية (وزارة المالية، مصرف لبنان، وزارة الاعلام، الضمان الاجتماعي) بالكشف عن الواقع المالي والاداري لهذه المؤسسات. ولنأخذ مثلاً ما جرى خلال العامين الماضيين على الاقل، حين تفتقت عبقرية احدهم عن بدعة لدعم الاعلام اللبناني، فكانت النتيجة أن حصلت وسائل اعلامية بارزة في لبنان، من تلفزيونات وصحف واذاعات ومواقع الكترونية، على قروض ميسرة ومدعومة من المصرف المركزي، لكن هذه القروض لم تنفق على تطوير وسائل الاعلام وتحصين حقوق العاملين فيها، بل تمت بطريقة مخزية. حيث قبل اصحاب مؤسسات اعلامية، بالحصول على قروض تمتد لنحو 16 عاماً، بفوائد تقل عن 2 في المئة، مع فترات سماح بالسداد تصل الى 4 سنوات، وبمبالغ يقرر حاكم مصرف لبنان سقفها. وكانت النتيجة أن هذه القروض تحولت الى ودائع في مصارف لبنانية، يحصل أصحابها على فوائد تفوق 7 الى 10 نقاط فائدة القرض نفسه، وتُصرف بطريقة يتبين من حال وسائل الاعلام في لبنان أنها طريقة تخص اصحاب الوسائل الاعلامية، لا الوسائل نفسها ولا العاملين فيها. وعندما يحصل تواطؤ من هذا النوع، وهو تواطؤ تكون نتيجته حصول هذه الوسائل على عشرات ملايين الدولارات، فكيف يمكن عندها استغراب سلوك هؤلاء «المرتشين» من الاعلام اللبناني، وصمتهم عن تدمير البلاد؟ وإلا كيف يمكن للوسائل الإعلامية المرئية، مثلاً، أن تسعى للحصول على إعفاء كامل عن مستحقات مالية في ذمتها لمصلحة الخزينة العامة، وعندما يصار الى البحث مع الحكومة عن حلول، تجد اصحاب الوسائل الاعلامية يريدون دعماً من المال العام، لكن، من دون الموافقة على عرض موازناتهم امام الجهات الرقابية في الدولة؟
ثالثاً: لم يكن الانقسام السياسي في الوسط الاعلامي عاملاً منفّراً يوماً من الايام. بل هو عنصر ملازم لتعددية وسائل الاعلام، ولا يحق لأحد، سياسياً كان أو اعلامياً أو قارئاً أو مشاهداً، الاحتجاج على الميل السياسي لهذه المؤسسة أو تلك. فهذا أمر يخص أصحاب الوسيلة الاعلامية، والعاملين فيها. لكن هذا الانقسام لا يمنع، تحت أي ظرف، التفاهم على قواسم مشتركة تخص ما يسمى «الحق العام»، أي أن يكون الاعلام في لبنان غير خاضع لحسابات شخصية فقط، وأن يصار الى فرض قواعد وقوانين تمنع انتحال الصفة من جيش من الناشطين والعاملين الذين يتحولون مع الوقت الى ناطقين باسم قوى وتيارات سياسية متنازعة، لكن يجري تقديمهم على أنهم اعلاميون، وهو اعتداء كبير، لا يواجه بمعارضة أهل الاعلام، لأسباب مختلفة، أهمها استعداد وسائل الاعلام لاستضافة هؤلاء، كتّاباً أو محاورين، لقول ما تريد قوى سياسية أن تقوله، فيتحول الاعلام عندها الى منصة عامة، تنشر التخلف والعنصرية والحقد والتخلف والاكاذيب، وتبرر فعلتها بأنها ليست هي من تنطق بهذه الامور، بل هي مجرد منصة تفسح المجال أمام «العموم» للنطق بهذه الوقائع، وكل ذلك يجري بحجة التنوع والتعدد والحرية. وهو أمر لا يتوقف على مشوّهي المهنة والسياسة في لبنان، بل يشمل أساساً كل ما يتصل بالذوق العام في البلاد، من ثقافة ومسرح وموسيقى وفنون ورياضة، حتى صار الإعلام في لبنان أشبه بمكب لنفايات الطوائف والاحزاب العنصرية وتجار المال ورجالات السلاطين على أنواعهم.
الحقيقة التي يهرب أهل الاعلام في لبنان منها، أنهم لا يختلفون في كثير من الاحيان عن السياسيين المشكو منهم. وليزعل من يزعل. فالفساد في مهنتنا لا يقل عن فساد السياسة والسياسيين، والتخلف في مهنتنا لا يقل عن تخلف القابضين على روح البلاد والعباد. أما الحرية عندنا، فهي تتوقف عند الصراخ فقط، لكننا أيضاً لا نعرف للمحاسبة طريقاً، ولا نقبل أن يسألنا أحد عن واقعنا وأمورنا الداخلية، وإذا ما تجرّأ أحد، سواء أكان سياسياً أم مواطناً، على توجيه سؤال ولو بسيط، نصرخ في وجهه: صه... إنها الحرية!